قال عز شأنه:{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} أي فإن زللتم وحدتم عن صراط الله وهو السلم إلى خطوات الشيطان وهي طرق الخلاف والافتراق والباطل والشر ، من بعد أن بين الله تعالى لكمأن سبيله واحدة وهي السلم ، وأن الشيطان لكم عدو مبين ، وأمركم أن تتخذوه عدوا وتجتنبوا طرقه وخطواته ، ثم فصل لكم من ذلك ما اضطررتم إليه ، وأكد النهي عن شر تلك الطرق وأشأمها وهي طرق التفرق والخلاففاعلموا أن أمامكم أمرا جليلا ، وأخذا وبيلا ، ذلك أن الله تعالى لعزته لا ينسى من ينسى سننه ويزل عن شريعته ، بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة ، وهدى إليها الناس بما أنزل من الشريعة ، ومن ذلك أن جعل لكل ذنب عقوبة ، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم أثرا من أثارها لازما لها حتما .فكأنه تعالى قال فاعلموا أنه يحل بكم العقاب لأنه عزيز لا يغلب على أمره ، وحكيم لا يهمل أمر خلقه ، ولكن هذا التعبير أبلغ لأنه بيان للحجة ، وتقرير للبرهان بالإشارة إلى مقدماته ، اكتفاء به عن ذكر النتيجة وهو من ضروب إيجاز القرآن ، التي لم تعهد في كلام إنسان .
قال الأستاذ الإمام:إنه ذكر من صفاته تعالى ما هو دليل العقاب وهو ما لا مطمع في زواله ، ولا هزء في الدين أكبر من ظن المغرور أنه ينال جنة عرضها السموات والأرض وفيها من النعيم والرضوان ما لم يخطر على قلب بشر ، بغير الأعمال التي أرشدت إليها آيات الله تعالى ، مبينة أن العقوبة على تركها من آثار صفاته القديمة التي لا يلحقها تغيير ولا تؤثر فيها الحوادث بتبديل ولا تحويل اه .
ونقول نحن على طريقته إن ظن المغرورين بأنه يكون لهم السلطان والخلافة في الأرض بمجرد دعوى الإيمان والإسلام ، ولو مع بعض الأعمال البدنية من غير إقامة العدل في الناس والعمارة والإصلاح في الأرض ، هو من الهزء بآيات الله في كتابه ، وآياته في خلقه ، فإنها متفقة على أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة العدل فيها:{ وما كان ربك ليهلك القرى} ( هود:117 ) أي الأمم{ بظلم} منهم أي شرك وكفر ، أو منه لهم{ وأهلها مصلحون} أي والحال أنهم مصلحون في أعمالهم وسياستهم وإنما يهلكها إذا ظلموا وأفسدوا فيها .
والآيتان المفسرتان آنفا وما في معناها كقوله تعالى:{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ( آل عمران:103 ) إلى قوله:{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} ( آل عمران:105 ) وقوله:{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، لست منهم في شيء} ( الأنعام:159 ) كلها هادمة للتقاليد التي فرقت الأمة وجعلتها شيعا ، حتى صار بأسها بينها شديدا ، فسفكت دماءها بأيديها ، ومزقت دنياهم بتمزيق دينها ، وكان من أمرها بعد ذلك ما ترى سوء عاقبته في كل شعب وكل قطر .