{ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله}
المفردات:
يشري نفسه: يبيعها .
ابتغاء: أي طلب .
مرضاة: أي رضاء .
المعنى الإجمالي:
فما أبعد الفرق بين هؤلاء المنافقين ،وبين المؤمنين الصادقين الذين يبيع أحدهم نفسه في سبيل مرضاة الله وإعلاء كلمة الحق ،ويكون هذا القسم مقابلا للقسم الأول ،ويكون توليه أمره من أمور الناس من رأفة الله بعباده .
التفسير:
ويشتري هنا معناها يبيع ،فهو يبع نفسه كلها لله ،ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية ،ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله ،ليس فيها شيء ،وليس له من ورائها شيء ،بيعة كاملة لا تردد فيها ،ولا تحصيل الثمن ،ولا استبقاء بقية لغير الله .
{والله رءوف بالعباد}
أي رفيق ورحيم بهم ،ومنه مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم بما هو فوق طاقتهم ،وإنما كافه بما تطيقه نفوسهم ،وأنه أسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ،وأنه كافئهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ،وأنه جعل العاقبة للمنقين ،لا للمفسدين ،وأنه فتح بابه للتائبين ،وتجاوز عن المخطئين وحثهم على الإنابة والاستقامة فقال سبحانه:
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم*وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ولا تنصرون} .( الزمر: 53-54 ) .
وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية ،منها ما رواه ابن كثير أنها نزلت في صهيب الرومي .
وذلك أنه أسلم في بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله ،وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ،فتخلص منه وأعطاه ماله ،فأنزل الله فيه هذه الآية .
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عندما بلغه أن صهيبا دفع ماله للمشركين وهاجر بنفسه ربح صهيب ،ربح صهيب .
وهنا ك روايات أنها نزلت فيه ،وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .
والآية وإن كانت نزلت في حادثة معينة ،أو انطبقت عليها ،فإنها تتناول كل من أطاع الله تعالى وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمة الله ،ويدخل ف ذلك دخولا أوليا من نزلت فيهم الآية ،إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قال الأستاذ سيد قطب:
والآية أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد وهي ترسم صورة نفس وتحدد ملامح نموذج من الناس ،نرى نظائره في لبشرية هنا وهناك .
والصورة الأولى: تنطبق على كل منافق مراء دلق اللسان .فظ القلب شرير الطبع شديد الخصومة ،مفسود الفطرة .
والصورة الثانية: تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان ،متجرد لله ،مرخص لأعراض الحياة .وهذا وذاك نموذجا معهودان في الناس ،ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ،وتقيمها أمام الأنظار ،يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ،ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان ،ويتعلم منها الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول ،وطلاوة الدهان ،وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة ،والنبرة المتصنعة ،والنفاق والرياء والسواق كما يتعلمون منها كيف تكون القيم فيميزان الإيمان ( 141 ) .
* * *