)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( البقرة:278 )
التفسير:
قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا}: الجملة ندائية ؛فائدتها: تنبيه المخاطب .
قوله تعالى:{اتقوا الله} أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه .
قوله تعالى:{وذروا ما بقي من الربا} أي اتركوا ما بقي من الربا .
قوله تعالى:{إن كنتم مؤمنين}: هذا من باب الإغراء ،والحث على الامتثال ؛يعني: إن كنتم مؤمنين حقاً فدعوا ما بقي من الربا ؛وهذه الجملة يقصد بها الإغراء ،والإثارة - أعني إثارة الهمة .
فإن قلت: كيف يوجِّه الخطاب للمؤمنين ،ويقول:{إن كنتم مؤمنين}؛أفلا يكون في هذا تناقض ؟فالجواب: ليس هنا تناقض ؛لأن معنى الثانية التحدي ؛أي إن كنتم صادقين في إيمانكم فاتقوا الله ،وذروا ما بقي من الربا .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بلوغ القرآن أكمل البلاغة ؛لأن الكلام في القرآن يأتي دائماً مطابقاً لمقتضى الحال ؛فإذا كان الشيء مهماً أحاطه بالكلمات التي تجعل النفوس قابلة له ؛وهذا أكمل ما يكون من البلاغة .
2 - ومنها: أنه إذا كان الشيء هاماً فإنه ينبغي أن يصَدَّر بما يفيد التنبيه من نداء ،أو غيره .
3 - ومنها: وجوب تقوى الله ،لقوله تعالى:{اتقوا الله}؛و «التقوى » وصية الله لعباده الأولين ،والآخرين ؛قال الله تعالى:{ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [ النساء: 131] .
4 - ومنها: وجوب ترك الربا - وإن كان قد تم العقد عليه ؛لقوله تعالى:{وذروا ما بقي من الربا}؛وهذا في عقد استوفي بعضه ،وبقي بعضه .
5 - ومنها: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام - وإن عقدت في حال الشرك ؛لعموم قوله تعالى:{وذروا ما بقي من الربا} ،ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في عرفة عام حجة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع ؛وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله »{[527]} ؛ولكن يجب أن نعلم أن العقود التي مضت في الكفر على وجه باطل ،وزال سبب البطلان قبل الإسلام فإنها تبقى على ما كانت عليه ؛مثال ذلك: لو تبايع رجلان حال كفرهما بيعاً محرماً في الإسلام ،ثم أسلما فالعقد يبقى بحاله ؛ومثال آخر: لو تزوج الكافر امرأة في عدتها ،ثم أسلما بعد انقضاء عدتها فالنكاح باق ؛ولهذا أمثلة كثيرة .
6 - ومن فوائد الآية: تحريم أخذ ما يسمى بالفوائد من البنوك ؛لقوله تعالى:{وذروا ما بقي من الربا}؛وزعم بعض الناس أن الفوائد من البنوك تؤخذ لئلا يستعين بها على الربا ؛وإذا كان البنك بنك كفار فلئلا يستعين بها على الكفر ؛فنقول: أأنتم أعلم أم الله !!!وقد قال الله تعالى:{ذروا ما بقي من الربا}؛والاستحسان في مقابلة النص باطل .
فإن قال قائل: إذا كان البنك بنكاً غير إسلامي ،ولو تركناه لهم صرفوه إلى الكنائس ،وإلى السلاح الذي يقاتَل به المسلمون ،أو أبقوه عندهم ،ونما به رباهم ؛فنقول: إننا مخاطبون بشيء ،فالواجب علينا أن نقوم بما خوطبنا به ؛والنتائج ليست إلينا ؛ثم إننا نقول: هذه الفائدة التي يسمونها فائدة هل هي قد دخلت في أموالنا حتى نقول: إننا أخرجنا من أموالنا ما يستعين به أعداؤنا على كفرهم ،أو قتالنا ؟
والجواب: أن الأمر ليس كذلك ؛فإن هذه الزيادة التي يسمونها فائدة ليست نماءَ أموالنا ؛فلم تدخل في ملكنا ؛ثم إننا نقول له: إذا أخذته فأين تصرفه ؟قال: أصرفه في صدقة ؛في إصلاح طرق ؛في بناء مساجد تخلصاً منه ،أو تقرباً به ؛نقول له: إن فعلت ذلك تقرباً لم يقبل منك ،ولم تسلم من إثمه ؛لأنك صرفته في هذه الحال على أنه ملكك ؛وإذا صرفته على أنه ملكك لم يقبل منك ؛لأنه صدقة من مال خبيث ؛ومن اكتسب مالاً خبيثاً فتصدق به لم يقبل منه ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً »{[528]} ؛وإن أخرجته تخلصاً منه فأي فائدة من أن تلطخ مالك بالخبيث ،ثم تحاول التخلص منه ؛ثم نقول أيضاً: هل كل إنسان يضمن من نفسه أن يخرج هذا تخلصاً منه ؟!فربما إذا رأى الزيادة الكبيرة تغلبه نفسه ،ولا يخرجها ؛أيضاً إذا أخذت الربا ،وقال الناس: إن فلاناً أخذ هذه الأموال التي يسمونها الفائدة ؛أفلا تخشى أن يقتدي الناس بك ؟!لأنه ليس كل إنسان يعلم أنك سوف تخرج هذا المال ،وتتخلص منه .
ولهذا أرى أنه لا يجوز أخذ شيء من الربا مطلقاً ؛لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا}؛ولم يوجه العباد إلى شيء آخر .
8 - ومن فوائد الآية: أن ممارسة الربا تنافي الإيمان ؛لقوله تعالى:{إن كنتم مؤمنين}؛ولكن هل يُخرج الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر ؟مذهب الخوارج أنه يخرجه من الإيمان إلى الكفر ؛فهو عند الخوارج كافر ،كفرعون ،وهامان ،وقارون ؛لأنه فعل كبيرة من كبائر الذنوب ؛ومذهب أهل السنة والجماعة أنه مؤمن ناقص الإيمان ؛لكنه يُخشى عليه من الكفر لا سيما آكل الربا ؛لأنه غذي بحرام ؛وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ،ومشربه حرام ،وملبسه حرام ،وغذي بالحرام: «فأنى يستجاب لذلك »{[529]} - نسأل الله العافية .
9 - ومن فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ،حيث حرم عليهم ما يتضمن الظلم ؛وأكد هذا التحريم ،وأنزل القرآن فيه بلفظ يحمل على ترك هذا المحرم ؛لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا} ،وقوله تعالى:{اتقوا الله} ،وقوله تعالى:{إن كنتم مؤمنين}؛والحكم:{ذروا ما بقي من الربا} .