)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة:279 )
التفسير:
قوله تعالى:{فإن لم تفعلوا} يعني: فإن لم تتركوا ما بقي من ربا ؛{فأذنوا} بالقصر وفتح الذال ،بمعنى أعلنوا ؛وفي قراءة{فآذنوا} بالمد ،وكسر الذال ؛والمعنى: أن من لم ينته عن الربا فقد أعلن الحرب على الله ورسوله .
قوله تعالى:{وإن تبتم} أي رجعتم إلى الله سبحانه وتعالى من معصيته إلى طاعته ؛وذلك هنا بترك الربا ؛والتوبة من الربا ،كالتوبة من غيره - لابد فيها من توافر الشروط الخمسة المعروفة .
قوله تعالى:{فلكم رؤوس أموالكم}؛{رؤوس} جمع رأس ؛و «الرأس » هنا بمعنى الأصل ؛أي لكم أصول الأموال ؛وأما الربا فليس لكم ،ثم علل الله عز وجل هذا الحكم بقوله تعالى:{لا تظلمون}؛لأنكم لم تأخذوا الزيادة ؛{ولا تُظلمون}؛لأنها لم تنقص رؤوس أموالكم .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الرد على الجبرية ؛لقوله تعالى:{فإن لم تفعلوا}؛لأن الجبرية يقولون: إن الإنسان لا يستطيع الفعل ،ولا الترك ؛لأنه مجبر ؛وحقيقة قولهم تعطيل الأمر والنهي ؛لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما أمر به ،ولا ترك ما نهي عنه .
2 - ومنها: أن المصِرّ على الربا معلن الحرب على الله ورسوله ؛لقوله تعالى:{فأذنوا بحرب من الله ورسوله} .
ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا كان معلناً الحرب على الله ،ورسوله فهو معلن الحرب على أولياء الله ،ورسوله - وهم المؤمنون ؛وذلك بدلالة الالتزام ؛لأن كل مؤمن يجب أن ينتصر لله ،ورسوله ؛فالمؤمنون هم حزب الله عز وجل ورسوله .
3 - ومن فوائد الآية: عظم الربا لعظم عقوبته ؛وإنما كان بهذه المثابة ردعاً لمتعاطيه عن الاستمرار فيه ؛قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه جاء في الوعيد على الربا ما لم يأت على ذنب دون الشرك ؛ولهذا جاء في الحديث الذي طرقه متعددة: «إن الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه »{[530]} ؛وهذا كلٌّ يستبشعه ؛فالربا ليس بالأمر الهين ؛والمؤمن ترتعد فرائصه إذا سمع مثل هذه الآية .
4 - ومنها: أنه يجب على كل من تاب إلى الله عز وجل من الربا ألا يأخذ شيئاً مما استفاده من الربا ؛لقوله تعالى:{وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} .
5 - ومنها: أنه لا يجوز أخذ ما زاد على رأس المال من الربا لأيّ غرض كان ؛سواء أخذه ليتصدق به ،أو ليصرفه في وجوه البر تخلصاً منه ،أو لغير ذلك ؛لأن الله أمر بتركه ؛ولو كان هنا طريق يمكن صرفه فيه لبينه الله عز وجل .
6 - ومنها: الإشارة إلى الحكمة من تحريم الربا - وهي الظلم ؛لقوله تعالى:{لا تظلمون ولا تظلمون} .
فإن قال قائل: إن بعض صور الربا ليس فيه ظلم ،مثل أن يشتري صاعاً من البر الجيد بصاعين من الرديء يساويانه في القيمة ؛فإنه لا ظلم في هذه الصورة ؛قلنا: إن العلة إذا كانت منتشرة لا يمكن ضبطها فإن الحكم لا ينتقض بفقدها ؛ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي إليه بتمر جيد فسأل: «من أين هذا ؟فقال بلال: تمر كان عندنا رديّ فبعت منه صاعين بصاع ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوَّه أوَّه !عين الربا عين الربا لا تفعل »{[531]} ؛ثم أرشدهم إلى أن يبيعوا التمر الرديء بالدراهم ؛ويشتروا بالدراهم تمراً جيداً ؛فدل هذا على أن تخلف الظلم في بعض صور الربا لا يخرجه عن الحكم العام للربا ؛لأن هذه العلة منتشرة لا يمكن ضبطها ؛ولهذا أمثلة كثيرة ؛ودائماً نجد في كلام أهل العلم أن العلة إذا كانت منتشرة غير منضبطة فإن الحكم يعم ،ولا ينظر للعلة .
7 - ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ؛لقوله تعالى:{ورسوله} .
8 - ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالعباد ،حيث أرسل إليهم الرسل ؛لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة ما ينفعها ،ويضرها على وجه التفصيل لقصورها ؛إنما تعرفه على سبيل الجملة ؛لقوله تعالى:{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [ الإسراء: 85]؛فمن أجل ذلك أرسل الله الرسل ؛فكان في هذا رحمة عظيمة للخلق .
9 - ومنها: مراعاة العدل في معاملة الناس بعضهم مع بعض ؛لقوله تعالى:{فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} .