[ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله]:أي فإن لم تفعلوا وأخذتم ما بقي من الربا فأنتم معاندون لله ولرسوله ، وأنتم في حرب معهما ، ومن حارب الله فإن الله غالبه ، وهو مهزوم لا محالة ، وإن الله سيعاقبه على عظيم ما ارتكب .
و هنا عدة كلمات فيها إشارات بيانية تبين عظيم ما يتعرض له من يعاند الله ورسوله ، ويخالف أحكامه التي يقررها الله تعالى لتنظيم المجتمع الإسلامي ، وتبين أيضا عظيم عمل من يحترم أحكام الله تعالى:
أول هذه الكلمات:إن الله تعالى يقول:[ فإن لم تفعلوا] أي لم تتركوا ما بقي من الربا ، فعبر عن الترك هنا بالفعل ، فلم يقل:فإن لم تتركوا ، بل قال:[ فإن لم تفعلوا] وذلك لأن الذين يتركون ما بقي من عقود عقدوها ، يقاومون رغباتهم ويقاومون أهواءهم وشهواتهم ، فهذه المقاومة ، وذلك الكف فعل نفسي جليل يحرضهم سبحانه وتعالى عليه ، ويدعوهم إليه ، فإن فعلوه كان لهم الثواب المقيم والرضا الكريم ، وإن لم يفعلوا فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله .
و الكلمة الثانية:أن الله سبحانه وتعالى يقول للذين لا يتركون ما حرم الله من ربا [ فأذنوا بحرب] أي فاعلموا بأنكم في حرب ؛ وذلك لأن أذن هنا بمعنى علم ، وفي قراءة "فآذنوا "بحرب . ويقول الزمخشري في هذه القراءة إن معناها "فأعلموا بها غيركم "وعلى ذلك يكون آذنوا بالحرب معناها الإعلام بها ، وأما أذنوا بحرب فمعناها العلم بها ، ولكن الراغب الأصفهاني يقول:"إن الإذن بالحرب والإيذان بها بمعنى واحد ".
و لماذا عبر عن معاندتهم لله وحربهم لشريعته بقوله:[ فأذنوا بحرب] ولم يقل فأنتم في حرب ؟ للإشارة إلى أن الجهالة توهمهم أنهم ليسوا بخارجين عن إرادة الله تعالى إن طالبوا بأحكام العقود التي عقدوها من قبل ، فالله سبحانه وتعالى أعلمهم بأنهم في أخطر مخالفة وأشد معاندة .
و الكلمة الثالثة:إنه تعالى قال في الحرب:[ فأذنوا بحرب من الله ورسوله] ولم يقل في حرب الله ورسوله ، وقد بين السر في ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله:"كان هذا أبلغ ؛ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله "أي أن في هذا التعبير الكريم تهويلا لشأن هذه الحرب من ناحيتين:ناحية التنكير ، فهي حرب هائلة لم يدركوا كنهها ، والناحية الثانية ناحية التصريح بإضافتها إلى الله ورسوله ، فهي حرب معهما ، والنتيجة في هذا مؤكدة محتومة .
و هذه الحرب أهي مجازية ، أم حقيقية ؟ يبدو بادي الرأي أنها مجازية من حيث إن كل معاندة لله ولرسوله عن عمد وبسبق وإصرار ، فيها معاندة لأحكامه سبحانه ، ومصادمة لأوامره ونواهيه ، وكل مصادمة لأوامر الله تعالى ونواهيه نوع من الحرب والمحادة له سبحانه .
و لكن بعض المفسرين يقول:إن ذلك كان إيذانا فعلا بالحرب ، كما حارب أبو بكر أهل الردة عندما منعوا الزكاة ، وزكوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغه صنيع ثقيف من مطالبتهم بربا كان ثمرة لعقود عقودها من قبل ، قد آذنهم بحرب ، وكتب إلى عتاب بن أسيد والي مكة من قبله يقول له:"إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب "{[435]} أي أنه صلى الله عليه وسلم اعتبرهم مرتدين يقاتلون باستمرارهم على أكل الربا ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام عندما صالح ثقيفا بعد حرب كان مما نص عليه في هذا الصلح أن ما لهم من ربا على الناس ، وما كان للناس عليهم من ربا موضوع .
و ما أجدر بعض الذين يتكلمون في هذا اليوم مستحلين الفوائد على أنها ليست من الربا أن يعتبروا ببني ثقيف وبني مخروم!! فإن أولئك كانوا يأخذون من الثقفيين ليتجروا ، وليربوا ، فوضع الله الربا الجاهلي كله ، واعتبر المطالبة بما بقي حربا لله ورسوله . . ألا فليمتنع هؤلاء عن قولهم حتى لا يخاطبوا بقول الله:[ فأذنوا بحرب من الله ورسوله] .
[ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون] أي أن من يقع في الربا وأراد أن يتوب إلى الله ويرجع إليه ، فليعلم أنه ليس له أن يأخذ بعد تحريم الربا إلا رأس المال . وإن الاقتصار على رأس المال لا يكون فيه ظلم للدائن ؛ لأنه وصل إليه مثل ما أعطى وليس له وراء ذلك حق ، ولا ظلم فيه على المدين ؛ لأن أداء الحق لا ظلم فيه ، وإن امتنع عن إعطاء رأس المال كان ظالما ، ما دام يمتنع عن قدرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مطل الغني ظلم "{[436]} .
و في النص الكريم إشارة إلى أمرين:
أحدهما:أن من يعطى الربا ليس له إلا رأس المال ، وأن الزيادة أكل لمال الناس بالباطل أيا كانت هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة ، فلا عبرة بالمقدار مهما يكن ضئيلا ، ولا عبرة بالدين أيا كان نوعه . والتعبير عن أصل الدين برأس المال نص في أن الربا يكون إذا كان الدين قد اتخذ أصلا للاتجار والكسب ، أي أن الدين الذي يأخذ للاستغلال الربا فيه حرام ، وبالأولى الدين الذي يؤخذ للاستهلاك واختيار ذلك اللفظ بالذات يومئ إلى أن الربا كان يتخذ سبيلا للاستغلال . والتعبير ب "رأس "أيضا يحسم الخلاف ؛ لأنه لو عبر بالدين فربما يدعي الربوي أن الدين هو الأصل والزيادة معا .
ثانيهما:الذي يدل عليه النص الكريم:أن طريق التوبة دائما أن ينقي التائب ماله من كل مال خبيث ، فكل زيادة عليه ترد إلى أصحابها ، وإلا يتصدق بها .