{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}{ما يلفظ}: ما هنا نافية ،و{قول} مجرورة بمن الزائدة إعراباً المفيدة معنىً ،لكن تأتي حروف الجر أحياناً زائدة في الإعراب ،لكنها تفيد معنى التوكيد ،ولهذا إذا اقترن المنفي بمن الزائدة ،أو بالباء الزائدة مثل{ومآ أنا بظلام للعبيد} فإنه أوكد من النفي المجرد من حرف الجر الزائد ،{ما يلفظ من قول} إذا جعلنا من زائدة إعراباً مفيدة معنىً ففائدة معناها التوكيد على العموم أي: أي قول يلفظه الإنسان لديه رقيب عتيد ،{رقيب} مراقب ليلاً ونهاراً ،لا ينفك عن الإنسان ،{عتيد} حاضر لا يمكن أن يغيب ويوكل غيره ،فهو قاعد مراقب حاضر ،لا يفوته شيء{من قول} أي قول نقوله ،كل قول لأن{من} هذه زائدة و{قول} نكرة في سياق النفي فهي للعموم ،أي قول ،وظاهر الآية الكريمة أن القول مهما كان يكتب ،سواء كان خيراً أم شرًّا ،أم لغواً يكتب ،لكن يحاسب على ما كان خيراً أو شرًّا ،ولا يلزم من الكتابة أن يحاسب الإنسان عليها ،وهذا ظاهر اللفظ ،وهو أحد القولين لأهل العلم .
ومن العلماء من يقول: إنه لا يكتب إلا الحسنات والسيئات فقط ،أما اللغو فلا يكتب .
والقول الأول أولى ،وهو العموم ،أما النتيجة فواحدة ،لأنه حتى على القول بأن الكاتب يكتب كل شيء يقولون: إنه لا يحاسب إلا على الحسنات والسيئات ،لكن كوننا نقول بالعموم هو المطابق لظاهر الآية ،ثم هو الذي فيه الدليل على أن المَلَكين لا يتركان شيئاً ،مما يدل على كمال عنايتهما بما ينطق به الإنسان ،وبناءً على ذلك يجب علينا أن نحترز غاية الاحتراز من أقوال اللسان ،فكم زلة لسانية أوجبت الهلاك - والعياذ بالله - ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الرجل الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان ،فقال الله: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان ،قد غفرت له وأحبطت عملك »قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ،نسأل الله العافية .
احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
احذر آفات اللسان ،إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حفظ اللسان مَلاك الأمر كله ،فقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «أفلا أدلك على ملاك ذلك كله » ؟قلت: بلى يا رسول الله ،قال: فأخذ بلسان نفسه وقال: «كف عليك هذا » .لا تطلقه ،لا تتكلم ،قال: يا رسول الله ،وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟فقال له: «ثكلتك أمك يا معاذ ،وهل يكبّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم »فالمؤمن يجب أن يحذر لسانه فإنه آفة عظيمة ،ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ».وحينئذ نعرف أن الصمت مفضّل على الكلام ؛لأن الكلام قد لا يدري الإنسان أخيراً هو أم شراً ،ثم إني أقول: الكلمة إذا أطلقتها وخرجت من فمك فهي كالرصاصة تطلقها ،لا يمكنك أن تمنعها إذا خرجت من فوهة البندقية ،إذا انطلقت تفسد أو تصلح ،كذلك الكلمة ،فالعاقل يمنع لسانه ولا يتكلم إلا بخير ،والخير إما في ذات المتكلم به ،وإما في غيره ،يعني قد يكون الكلام ليس خيراً لا بنفسه ،لكنه خير من جهة آثاره ،قد يتكلم الإنسان بكلام لغو ليس أمراً بالمعروف ولا نهياً عن منكر ،وليس إثماً ووزراً ،لكن يتكلم من أجل أن يفتح الباب للحاضرين ،لأنه أحياناً تستولي على المجلس الهيبة ولا أحد يتكلم ،فيبقى الناس كلهم في غم ،فيتكلم من أجل أن يفتح الباب للناس ،وتنشرح صدورهم ،ويحصل تبادل الكلام الذي قد يكون نافعاً ،نقول: هذا الكلام الذي تكلم وفتح به باب الكلام وأزال عن الناس الغم يعتبر خيراً لغيره ،وهذا داخل إن شاءالله في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » .