ثم قال - عز وجل -:{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء:
الأول: الإيمان بوجوده .
الثاني: الإيمان بربوبيته .
الثالث: الإيمان بألوهيته .
والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته .
والإيمان بوجود الله لا ينكره إلا مكابر في الواقع ،لأن كل إنسان يعرف أن هذا الكون المستقر المنظم لابد له من موجد ومنظم ،والموجد والمنظِّم هو الله - عز وجل - لأن كل إنسان يعلم أنه لا يستطيع أحد من البشر أن يتصرف بهذا الكون ،مَن الذي يأتي بالليل مع وجود النهار ؟ومن الذي يأتي بالنهار مع وجود الليل ؟لا أحد يقدر ،إذن كل إنسان عاقل فهو مؤمن بقلبه وإن أنكر بلسانه ،مؤمن بوجود الله - عز وجل - ،وجه ذلك أن هذه الخليقة العظيمة لابد لها من مدبر ،لو قال قائل: إنها جاءت هكذا صدفة ،فنقول: إن الشيء إذا جاء صدفة لا يكون منظماً ،ولو قال قائل: هي أوجدت نفسها ،نقول: هذا أيضاً محال عقلاً ،كيف توجد نفسها وهي عدم ،هذا لا يمكن ،إذن لابد لها من موجد ،ولهذا قال الله تعالى في سورة الطور:{أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والجواب: بل أنت يا ربنا ،نحن لا نقدر أن نخلق جنيناً في بطن أمه أبداً ،قال الله - عز وجل -:{يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} استمعوا يا أيها الناس ،خطاب للناس كلهم: الكافر والمؤمن ،ولهذا إذا قرأت الآية يجب أن تستمع{إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً} هذا الذباب المهين لا يمكن أن يخلقوه{ولو اجتمعوا له} ،كل المعبودات لا يمكن أن تخلق ذباباً وهو من أصغر الحيوان وأذلها ،زد على هذا ،{وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه} يعني لو أن الذباب أخذ من هذه الأصنام شيئاً ما استطاعت أن تستنقذه منه ،قال أهل العلم: المعنى لو وقع الذباب على أحد هذه الأصنام وامتص من الطيب الذي فيها ،لأنهم يطيبون أصنامهم ،ما استطاعت الأصنام أن تستنقذه ،{ضعف الطالب والمطلوب} ،فلا يمكن لأحد أن ينكر من صميم قلبه وجود الله - عز وجل - أبداً ،لأنه باتفاق العقلاء أن كل حادث لابد له من مُحدث ،ولا أحد يحدث هذا الكون إلا الله - عز وجل - .
الثاني: الإيمان بربوبيته ،أي أنه وحده الخالق المالك المدبر لجميع الأمور ،فلا خالق إلا الله ،ولا مدبر للكون إلا الله ،ولا مالك للكون إلا الله - عز وجل - حتى ملك الإنسان ما في يده ليس ملكاً حقيقيًّا ،والدليل أنه لا يمكن أن يتصرف فيما في يده كما يشاء ،لو أردت أن أحرقه منعت شرعاً ،وحرام عليَّ ؛لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن إضاعة المال،إذن ملك الإنسان ما بيده ليس ملكاً حقيقياً ،بل إنه يختص به عن غيره فقط .
الثالث: الألوهية: هي أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله ،أي: لا معبود بحق إلا الله - عز وجل - وعبادة الأصنام غير حق ،كما قال - عز وجل -:{ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} إذن الألوهية أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله ،أي لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وما عبد من دونه فهو باطل ،وعليه فلا تصرف العبادة إلا لله .
الرابع: الإيمان بالأسماء والصفات: قال الله - عز وجل -:{ولله الأسماء الحسنى} وصفاته كذلك عليا ليس فيها صفة نقص ،قال الله تبارك وتعالى:{للذين لا يؤمنون بالأَخرة مثل السوء ولله المثل الأَعلى} أي الوصف الأعلى ،وأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها مهما أردت ،والدليل على ذلك حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - «ما من إنسان يصيبه هم أو غم أو حزن ثم يقول: اللهم إني عبدك ،ابن عبدك ،ابن أمتك ،ناصيتي بيدك ،ماضٍ فيَّ حكمك ،عدل فيَّ قضاؤك ،أسألك اللهم بكل اسم هو لك ،سميت به نفسك ،أو أنزلته في كتابك ،أو علمته أحداً من خلقك ،أو استأثرت به في علم الغيب عندك ».فجعل الله الأسماء ثلاثة أقسام ،ما أنزله في كتابه ،مثال الاسم الذي جاء في القرآن ( الرحمن ) أو علمته أحداً من خلقك مثل ( الرب ،الشافي ) ،جاء في السنة ،قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «السواك مطهرة للفم ،مرضاة للرب ».وقال عليه الصلاة والسلام: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب »فهذا مما علمه أحداً من خلقه .«أو استأثرت به في علم الغيب عندك » هذا القسم الثالث ما استأثر الله به في علم الغيب ،واستأثر بمعنى انفرد ،وما انفرد الله بعلمه فلم ينزله في الكتاب ولم يعلمه أحداً من الخلق لا يمكن الإحاطة به إذن أسماء الله لا يمكن الإحاطة بها ولا هي محصورة بعدد ،لأننا لا نعلمها ،وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة »فالمعنى أن من الأسماء تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هذا المعنى ،ومعنى ( أحصاها ) أي: عرفها لفظاً ،وعرفها معنى ،وتعبد لله بمقتضاها ،وليس المراد أن تحفظها فقط ،بل لابد من حفظ اللفظ وفهم المعنى ،والتعبد لله بها بمقتضاها ،فمثلاً: إذا علمت أن الله - سبحانه وتعالى - غفور فتعرض للمغفرة ،لا تقل: الله غفور ،وتفعل الذنب متى شئت ،بل تعرض للمغفرة واستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً ،وإذا علمت أن الله عزيز فتتعبد الله بمقتضى هذا وتخاف منه وتحذر ،وهلم جرا .
أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم كلهم من أولهم إلى آخرهم بما أخبروا به ،إذا صح عنهم ،وأما العمل بشرائعهم فإننا لا يلزمنا العمل إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة ،لقول الله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وقوله:{ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار »{أولئك} ،أي: الذين آمنوا بالله ورسله{هم الصديقون} أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً ،لأن الصديق صيغة مبالغة ،والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل ،فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره ،وإذا قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله ،لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك ،من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ».الثاني: الصدق في القول بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به ،وقد أثنى الله تعالى على الصادقين ،وأمرنا أن نكون معهم ،فقال - جل وعلا -:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ،وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه ،ورغَّب فيه ،فقال: «عليكم بالصدق ،فإن الصدق يهدي إلى البر ،وإن البر يهدي إلى الجنة ،ولايزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً ،وإياكم والكذب ،فإن الكذب يهدي إلى الفجور ،وإن الفجور يهدي إلى النار ،ولايزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً ».أما الصدق بالفعل فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؛لأن من كان صادقاً فيما يدعي من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} وقد سمى بعض السلف هذه الآية آية المحنة ،يعني الامتحان ،فمن ادعى حب الله ورسوله قلنا له: عليك باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ،فإن اتبعه فهو صادق ،وإن خالفه فليس بصادق ،{والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الشهداء جمع شهيد ،والمراد بهم من قُتلوا في سبيل الله ،والقتال في سبيل الله: أن يقاتل الإنسان عدو الله لتكون كلمة الله هي العليا ،قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ،ويقاتل حمية ،ويقاتل ليُرى مكانه: أي ذلك في سبيل الله ؟قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
فالشجاع يحب القتال ،كالصياد يحب أن يصيد ،ويخرج ويتجشم المصائب ليصيد الصيد ،وإذا صادها صارت عنده أرخص من كل شيء ،فهذا يقاتل شجاعة ،لأنه شجاع يحب أن يقاتل ،ويقاتل حمية يعني عصبية لقومه ،ويقاتل ليُرى مكانه ،أي: رياء كما جاء في اللفظ الآخر ،«ويقاتل رياء » قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ومن قاتل ليسترد أرضه المغصوبة فهو من باب الحمية إلا إذا قال: أريد أن أستردها لأقيم عليها شعائر الإسلام ،فهذا في سبيل الله ،أما من قاتل لأن هذه أرضه ويريد أن ترد إليه ،فهذا حمية ليس له أجر الشهداء إذا قتل ،هؤلاء الشهداء{لهم أجرهم عند ربهم} أي: ثوابهم العظيم كما قال تعالى:{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بمآ ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} ولما ذكر - عز وجل - أهل الإيمان وثوابهم ذكر أصحاب الشمال بعد ذلك قال:{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} لأن القرآن مثاني ،تثنى فيه الأمور والمعاني ،ولهذا تجد القرآن الكريم في الغالب إذا ذكر الله الجنة ذكر النار ،وإذا ذكر أولياء الله ذكر أعداء الله ،والحكمة من ذلك أن لا يمل الإنسان ،لأنه كلما تنقل المعنى إلى معنى آخر نشط الإنسان ،وحكمة أخرى أن يكون الإنسان سائراً إلى الله ،أي متعبداً إلى الله بين الخوف والرجاء ؛لأنه إذا مرت به صفات المؤمنين قوي جانب الرجاء ،وإذا ذكرت أحوال الكافرين غلب جانب الخوف .
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} عطف التكذيب على الكفر وهو نوع منه ؛لأنه أشد ،فالذي يكفر ولم يكذب أهون من الذي يكفر ويكذب ،فعطف كذبوا بآياتنا على كفروا من باب عطف الخاص على العام ،كعطف الروح على الملائكة وهو منهم ،قال الله تعالى:{تنزل الملائكة والروح فيها} والروح جبريل وهو من الملائكة ،{أولئك أصحاب الجحيم} .الجحيم اسم من أسماء النار ،وأصحابها يعني الملازمين لها ،ولهذا إذا مرت آية فيها ( أصحاب ) فالمعنى أنهم ملازمون لها مخلدون فيها ،نسأل الله العافية ،وفي هذه الآيات الترغيب بالأوصاف التي توصل إلى الجنات ،لأن الله تعالى لم يذكر لنا هذه الأمور لنتطلع عليها فقط ،ولكن لنسعى لها ،وفيها التحذير من الكفر والتكذيب ؛لئلا يقع الإنسان في هذا العقاب الأليم .
لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا ،كل يعمل على شاكلته ،بين حقيقة الدنيا ما هي ،وأمرنا أن نعلم من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر ،فالأمر بالعلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيراً حتى يتبين لك الأمر ،