{اعلموا أنما الحياة الدنيا} وهي حياتنا هذه{لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال} ،خمسة أشياء: اللعب بالجوارح ،بأن يعمل الإنسان أعمالاً تصده عن ذكر الله وعن الصلاة ،وأما اللهو بالقلوب فهو الغفلة ،وهذا أشد وأعظم ،وغفلة القلب - اعاذنا الله منها وأحيا قلوبنا - الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعة ،وتحرم من جميع آثارها لقول الله تعالى:{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} لم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه ،بل قال:{من أغفلنا قلبه} ،وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان ،وهذا لا شك أنه ينقص الثواب ،وينقص الآثار المترتبة على الذكر من صلاح القلب ،والاتجاه إلى الله ،والإنابة إليه وغير ذلك:{وزينة} أي: زينة بالملابس ،وزينة بالمراكب ،وزينة بالمساكن ،وزينة في كل شيء ،ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيراً يحب أن يزين بيته ،وكذلك سيارته عند الزواج إذا أراد الزواج يركب سيارة يجعلون عليها عقوداً من الأزهار وغيرها من الزينة{وتفاخر بينكم} أي: كل واحد يفخر على الثاني ،إما بالقبيلة ،أو بالعلم ،يكون هذاعنده علم بالطب ،وهذا لا يعرف ،وهذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف ،فيفخر عليه ،وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي ،لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعاً ،وأن يعرف نفسه وقدر نفسه ،ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين ومن التفاخر كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات مما نسمع .{وتكاثر في الأموال والأولاد} أي يحب أن يكون أكثر أموالاً وأكثر أولاداً .وهذا كقوله تعالى:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} هذه حقيقة الدنيا ،ومع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة لا تبقى ،فلابد أن تزول ،وإذا طال الزمان عاد الإنسان إلى الهرم ،وفي هذا يقول الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة*** لذاته بادكار الموت والهرم
كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم يقول: ما بعد ذلك ؟!ما الذي بعده ،إما موت أو هرم ،إما أن تموت وتنتهي من الدنيا ،وإما أن تهرم ،وتكون عالة على ابنك وبنتك حتى أهلك يملونك ،ولهذا أشار الله - عز وجل - إلى هذه الحالة فقال:{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف} لأنهما إذا بلغاالكبر اختل تفكيرهما وصارا يتعبان ،فأنت إما أن تموت وإلا تصل إلى حال الهرم ،هذا إن بقيت لك الدنيا ،وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم وقبل أن تموت ،فنأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا ،وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك ،وفي الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته أفسده الغنى » بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم ،وإنما أخشى عليكم أن تفتح الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم »وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ،فأكثر الفسقة ،وأكثر الكفرة من الملأ والأشراف ،واقرأوا القرآن ،مَن يكذب الرسل ؟هم الملأ والأشراف ،واعتبروا بالواقع الآن ،أكثر من يفسد الدنيا هم الأثرياء والأغنياء ،الذين فتحت عليهم الدنيا ،فليحذرها العاقل اللبيب ،وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة .
ثم ضرب الله لها مثلاً ؛لأن الأمثال تقرب المعاني ،إذ إن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس{كمثل غيث} أي: مطر تنبت به الأرض وتزول به الشدة ،{كمثل غيث أعجب الكفار نباته} أي النبات الناشىء عنه ،وأعجبهم: أي استحسنوه ،والكفار هم الكافرون بالله - عز وجل - لأن الكافر تعجبه الدنيا ويفرح بها ويسر بها ،وقلبه متعلق بها ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها ،فهو قد أعجب الكفار بالله ،وخص الكفار لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا ويعجبون بها وتتعلق قلوبهم بها ،أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة ،وقيل: إن المراد بالكفار هنا الزراع ،ولكن هذا ليس بصحيح ؛لأن إطلاق الكفار على الزراع نادر جداً ،هذا إن صح ،والذين يقولون: إن المراد بهم الزراع يقولون: لأن الزارع يكفر الحب ،أي: يستره في الأرض ،ولكن ما قررناه أولاً هو الصواب: أن المراد بالكفار ،هم الكفار بالله ،يعجب الكفار نباته ثم بعدما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه{يهيج} أي: ييبس ويجف ،{فتراه مصفراً} بعد أن كان أخضر نامياً يكون مصفرًّا دائماً ،{ثم يكون حطاماً} يعني: يتحطم ويتكسر ؛لأنه يبس ،فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع ؟التلف ،والزوال ،هذه حال الدنيا ،تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وغير ذلك ،وإذا بها تتحطم ،كم من غني كان مسروراً في أهله ،منعماً في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه ،وفي كل أحواله ،وإذا به يعود فقيراً ،فتتحطم دنياه ،فإن لم تكن مات وتحطمت دنياه بفراق هذه الدنيا ،فلابد من أحد أمرين: فإما أن تفارقك الدنيا ،وإما أن تفارقها ،هذه حال الدنيا ،وهذا أمر لا يشك فيه في الواقع ،لكن النفوس معها غفلة يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع ،فيظن أن كل شيء على ما يرام ،ويستبعد زوال الدنيا ،أو زواله هو عن الدنيا ،أما الآخرة فاستمع إليها ،قال:{وفي الأَخرة عذاب شديد} للكافرين ،{ومغفرة من الله ورضوان} للمؤمنين ،فأيما أحق أن يؤثر الإنسان ؟الدنيا التي مآلها الفناء والزوال ،أو الآخرة ؟!يؤثر الآخرة هذا العقل ،لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة عذاب شديد ،وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان ،{ومغفرة} للذنوب{ورضوان} بالحسنات ،{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} هذه الجملة فيها حصر طريقة النفي والإثبات ،وهو أعلى طرق الحصر ،{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} ،يغتر بها الإنسان ،فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول ،كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد الله عز وجل - وهو أعلم - أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة ،ومن زهد بالدنيا ورغب في الآخرة لم يفته شيء من نعيم الدنيا حتى وإن افتقر ،فإنه لا يفوته نعيم الدنيا ،ودليل هذا من القرآن والسنة ،قال الله - عز وجل -:{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً} لم يقل لنكثرن ماله وأولاده وقصوره{فلنحيينه حياة طيبةً} مطمئنة مستريح البال فيها ،{ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} ،وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ،وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ،إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له ،وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ».