ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كلّ رذيلة ،ورأس كلّ خطيئة ،فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كلّ مرحلة من هذه المراحل ،حيث يقول سبحانه: ( اعلموا إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) .
وبهذه الصورة فإنّ «الغفلة » و «اللهو » و «الزينة » و «التفاخر » و «التكاثر » تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان .
ففي البداية مرحلة الطفولة ،والحياة في هذه المرحلة عادةً مقترنة بحالة من الغفلة والجهل واللعب .
ثمّ مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب ،وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثاً وراء الوسائل والاُمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدّية .
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والعشق وحبّ الزينة .
وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنّه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تتولّد في نفسه دوافع العلو والتفاخر .
وأخيراً يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكّر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك .
والمراحل الأولى تشخّص حسب العمر تقريباً ،إلاّ أنّ المراحل اللاحقة تختلف عند الأشخاص تماماً ،والبعض من هذه المراحل تستمر مع الإنسان إلى نهاية عمره ،كمرحلة جمع المال ،وبالرغم من أنّ البعض يعتقد أنّ كلّ مرحلة من هذه المراحل الخمس تأخذ سنين من عمر الإنسان مجموعها أربعون سنة ،حيث تتثبّت شخصية الإنسان عند وصوله إلى هذا العمر .
كما أنّ بعض الأشخاص يمكن أن تتوقّف شخصيتهم في المرحلة الأولى والثانية حتّى مرحلة الهرم ،ولذا فإنّ سمات هذه المرحلة تبقى هي الشاخصة في سلوكهم وتكوين شخصياتهم ،حيث اللعب والشجار واللهو هو الطابع العامّ لهم ،وتفكيرهم منهمك للغاية في تهيئة البيت الأنيق والملابس الفاخرة وغير ذلك من متع الحياة الدنيا حتّى الموت ..إنّهم أطفال في سنّ الكهولة ،وشيوخ في روحية الأطفال .
ويذكر سبحانه مثالا لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه: ( كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج فتراه مصفّراً ثمّ يكون حطاماً ){[5098]} .
«كفّار » هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين ،ولكن بمعنى «الزرّاع » لأنّ أصل الكفر هو التغطية ،وبما أنّ الزارع عندما ينثر البذور يغطّيها بالتراب ،فقد قيل له كافر ،ويقال أنّ «الكر » جاء بمعنى القبر أحياناً ،لأنّه يغطّي جسم الميّت كما ورد في ( سورة الفتح الآية / 29 ) .
وفي الحديث عن النمو السريع للنبات يقول تعالى: ( يعجب الزرّاع ) إذ وردت هنا كلمة «الزرّاع » بدلا من الكفّار .
ويحتمل بعض المفسّرين أيضاً أنّ المقصود من «الكفّار » هنا هو نفس الكفر بالله تعالى وذكروا عدّة توجيهات لهذا ،والظاهر أنّ هذا التّفسير لا يتناسب وسياق الآية ،إذ أنّ المؤمن والكافر شريكان في هذا التعجّب .
( حطام ) من مادّة ( حطم ) بمعنى التكسير والتفتيت ،ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن ( حطام ) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة .
إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة أشهر ،ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير .
ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه: ( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ) .
وأخيراً تنهي الآية حديثها بهذه الجملة: ( وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور ) .
«غرور » في الأصل من مادّة ( غَرّ ) على وزن «حرّ » بمعنى الأثر الظاهر للشيء ،ويقال ( غُرّة ) للأثر الظاهر في جبهة الحصان ،ثمّ أطلقت الكلمة على حالة الغفلة ،حيث أنّ ظاهر الإنسان واع ،ولكنّه غافل في الحقيقة ،وتستعمل أيضاً بمعنى الخدعة والحيلة .
«المتاع » بمعنى كلّ نوع ووسيلة يستفاد منها ،وبناءً على هذا فإنّ جملة ( الدنيا متاع الغرور ) كما جاءت في قوله تعالى: ( وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور )تعني أنّها وسيلة وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين .
وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي ،وتكون منتهى غاياتهم ،ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية ،فذلك لا يعدّ من الدنيا ،بل ستكون جسراً وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّاً .
من البديهي أنّ النظر إلى الدنيا باعتبار أنّها «مقرّ » أو «جسر » سوف يعطي للإنسان توجّهين مختلفين ،الأوّل: يكون سبباً للنزاع والفساد والتجاوز والظلم ،والطغيان والغفلة ،والثاني: وسيلة للوعي والتضحية والأخوة والإيثار .
/خ20