ثم قال - عز وجل -:
{سابقوا إلى مغفرة من ربكم} أمر بالمسابقة ،وقد جاء الأمر في آية أخرى بالمسارعة فيجمع الإنسان بين المسابقة وهي شدة العدو في حال السير ،وبين المسارعة يعني المبادرة إلى فعل الخير{إلى مغفرة من ربكم} وذلك بفعل أسباب المغفرة ،ومن أسباب المغفرة أن تسأل الله المغفرة ،تقول: اللهم اغفر لي ،أو تقول: أستغفر الله وأتوب إليه ،ومن أسباب المغفرة فعل ما تكون به المغفرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه »وكقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه ،غفر الله بهما ما تقدم من ذنبه،وكقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده ،مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر »والأمثلة على هذا كثيرة ،{وجنة} هي دار النعيم التي أعدها الله - عز وجل - للمتقين ،فيها ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر ،فيها فاكهة ونخل ورمان ،وعسل ولبن وغير ذلك ،لكن لا تظن أن ما فيها يشابه ما في الدنيا ؛لأن الله يقول:{فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين} وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط ،اسم رمان لكن يختلف عن رمان الدنيا ،فاكهة تختلف عن فاكهة الدنيا ،فرش يختلف عن فرش الدنيا ،وهلم جرا ،وفي الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر »{عرضها كعرض السماء والأَرض} ،وفي سورة آل عمران:{عرضها السماوات والأَرض} ولا منافاة لأن الأول: عرضها كعرض السماء تشبيه .والثاني: عرضها السماوات والأرض أيضاً تشبيه ،لكن يسميه أهل البلاغة تشبيه بليغ{كعرض السماء والأَرض} ،ومَن يستطيع أن يقدر عرض السماء والأرض ؟لا أحد يستطيع ،السماوات بسعتها ،السماء الدنيا واسعة جدًّا ،كم بينها وبين الأرض من مسافة وهي محيطة بها ،والسماء الثانية فوقها وهي أوسع منها ،والثالثة أوسع وهلم جرا ،إلى أن تصل إلى الكرسي .والكرسي يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض »حلقة المغفر صغيرة ،ألقها في فلاة في الأرض ماذا تكون بالنسبة للفلاة ؟لا شيء ،قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة »فلن نستطيع أن ندرك عرض السماوات والأرض ،والجنة عرضها كعرض السماء والأرض ،ولذلك كان أقل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه مسافة ألفي سنة،وإنما ذكر الله تعالى أن عرضها عرض السماوات والأرض من أجل أن نحرص على ملء هذه الأرض أرض الجنة ،وفي الحديث: «أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اقرىء أمتك مني السلام ،وأخبرهم أن الجنة قيعان ،وإن غراسها: سبحان الله ،والحمد لله ،ولا إله إلا الله ،والله أكبر »فاحرص يا أخي على أن تملأ ما تستحقه من هذه الجنة بذكر الله ،وتلاوة كتابه ،وغير ذلك مما يقرب إلى الله{أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} أعدها الله - عز وجل - كما قال - عز وجل -{أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} ،ومعنى الإعداد التهيئة للشيء ،{للذين آمنوا بالله ورسله} آمنوا بالله ،وبكل ما أوجب الله الإيمان به ،من الإيمان بالله ،وملائكته ،وكتبه ،واليوم الآخر ،والقدر خيره وشره ،وقوله{ورسله} يشمل جميع الرسل الذين أولهم نوح وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام ،لكن إيماننا بالرسل يختلف عن إيماننا بمحمد عليه الصلاة والسلام ،فإيماننا بالرسل بأن نؤمن بأنهم صادقون مبلغون عن الله ،ونؤمن بكل ما صح من أخبارهم ،أما اتباعهم فلا اتباع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،فهم يشتركون مع الرسول بأن نؤمن بأنهم صادقون ،وأن كل ما أخبروا به صدق ،وأن كل ما جاءوا به فهو عدل ومناسب لأحوال أممهم في وقتهم ،أما الاتباع فلا نتبع إلا واحداً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ،وقوله:{آمنوا بالله ورسله} يدل على أن أهل الكتاب اليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة ،لأنهم لم يؤمنوا برسل الله ،والدليل أنهم كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام ،والكافر برسول من الرسل كافر بالجميع ،كيف وقد جاء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنسخ جميع الشرائع السابقة ،قال الله - عز وجل -:{كذبت قوم نوح المرسلين} مع أنه لم يسبق نوحاً أحد من الرسل ؛لأن من كذب رسولاً من الرسل فقد كذب جميع الرسل ،فكيف بمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته جميع الشرائع ،والذي قال الله فيه:{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} أخذ ميثاق النبيين كلهم .{قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ،الرسل كلهم يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام ،ولهذا في ليلة الإسراء كان محمد صلى الله عليه وسلم إمامهم في صلاتهم ،فاليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ،لأنهم لم يؤمنوا برسله ،لأنهم كفروا بمحمد ،بل هم كفروا برسلهم أيضاً ،لقوله تعالى:{كذبت قوم نوح المرسلين} ولأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشرهم بمحمد ،قال الله - عز وجل - في سورة الصف{وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فلما جاءهم هذا الرسول الذي بشر به عيسى ،قالوا: هذا سحر مبين ،وكفروا به ،فهم كفروا بعيسى وردوا بشارته وأنكروها ،ولا يجوز لنا أبداً أن نقول أو نعتقد أن أديان اليهود والنصارى اليوم أديان صحيحة أبداً ،بل هي أديان باطلة ،غير مقبولة عند الله ،كما قال الله - عز وجل -:{ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه}{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} أي ما أعد الله لهؤلاء المؤمنين بالله ورسله فضل الله في أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسله واتبعوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أثيبوا بهذه الجنات ،{يؤتيه من يشاء} المشيئة هنا مقترنة بالحكمة ،يعني من كان أهلاً للفضل آتاه الله الفضل ،ومن لم يكن أهلاً له لم يؤته ،والدليل قول الله - تبارك وتعالى -:{الله أعلم حيث يجعل رسالته} فلن يجعل رسالته إلا فيمن هو أهل لها ،وقال الله - عز وجل -{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال - عز وجل -:{فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون} فلا تظن أن الله يعطي الفضل لمن شاء بدون سبب ،لابد من سبب ،فمتى علم الله في قلب الإنسان خيراً آتاه الخير ،قال الله تعالى:{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأَسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} فأصلح قلبك فيما بينك وبين الله تجد الخير كله ،{والله ذو الفضل العظيم} ،أي: صاحب الفضل العظيم - عز وجل - ،فلا أحد أعظم منة من الله تعالى ،أوجدك من العدم ،وأعدك وأمدك بالنعم ،يسر لك الهدى ،فلا أحد أعظم منة من الله ،ولهذا قال الله - عز وجل -:{يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} ولما جمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار في غزوة حنين حين قسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم كان يقرر عليهم قال لهم: «ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي » قالوا: الله ورسوله أمن .قال: «ألم أجدكم متفرقين فألف الله قلوبكم بي » ؟ قالوا: الله ورسوله أمن .كلما قال قولاً قالوا: الله ورسوله أمن ،يعني أعظم منة ،فالحاصل أن الله تعالى ذو الفضل العظيم ،ولكن يؤتي فضله من هو مستحق له ،كما قال - عز وجل -:{ويؤت كل ذي فضل فضله} اللهم إني أسألك من فضلك العظيم أن تهدي قلوبنا وتصلح أعمالنا ،وتختم لنا بخير إنك على كل شيء قدير .