ثم قال بعد ذلك:{لتركبن طبقاً عن طبق} والخطاب هنا لجميع الناس ،أي لتركبن حالاً عن حال ،وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان ،وأحوال المكان ،وأحوال الأبدان ،وأحوال القلوب:
الأول: أحوال الزمان تتنقل{وتلك الأيام نداولها بين الناس} [ آل عمران: 140] .فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس ،ويوم آخر يكون بالعكس ،حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم ،وفي هذا يقول الشاعر:
ويوم علينا ويوم لنا ***ويوم نساء ويوم نسر
وهذا شيء يعرفه كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحاً مسروراً وفي اليوم الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً عن طبق .
الثاني: الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً ،وفي اليوم التالي منزلاً آخر ،وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الاخرة ،وما قبل الاخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة .القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة .وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى:{ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال الأعرابي: «والله ما الزائر بمقيم » فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه ،لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي ،وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد «فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير » أن هذه الكلمة غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الاخر ،لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء ،والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى ،كافر ،فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار .
الثالث: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} [ الروم: 54] .أول ما يخلق الإنسان طفلاً صغيراً يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد ضعيفًا ،ثم لايزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً ،ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف ،وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالاً ضعيفاً ،ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلىء نوراً ،ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل ،نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة .
الرابع: حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب ؟!أحوال القلوب هي النعمة وهي النقمة ،القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ،فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه ،ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » ،فالقلوب لها أحوال عجيبة ،تارة يتعلق القلب بالدنيا ،وتارة يتعلق بشيء من الدنيا ،تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه ،تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه ،تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه ،تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه ،تارة يكون مع الله عز وجل دائماً مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى ،ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله ،وإلى طاعة الله ،فيستخدم الدنيا ؛لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا .وأصحاب الدنيا هم الذين يخدمونها ،هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها .لكن أصحاب الاخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا ،ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله ،ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل ،فاستخدموها أخذاً وصرفاً ،لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر ،يراجعون الشيكات ،يراجعون المصروفات ،يراجعون المدفوعات ،يراجعون ما أخذوا وما صرفوا ،هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها ،لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس ،ولا يشقى به عن طاعة الله ،هذا هو الذي خدمته الدنيا ،هذه أحوال القلوب ،وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع ،ولهذا يجب علينا جميعاً أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب ؟أين ذهبت ؟لماذا تنصرف عن الله ؟لماذا تلتفت يميناً وشمالاً ؟ولكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وغلب على كثير من الناس ،حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً ،حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً ،والناس يصيحون يقولون صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله ؟فيقال: يا أخي هل صلاتك صلاة إذا كنت من حين تكبر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها ،فهل أنت مصل ؟صليت بجسمك لكن لم تصل بقلبك ،وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها نصفها ،ربعها ،ثلثها ،عشرها ،خمسها » حسب ما تعقل منها ،إذاً فالقلوب تركب طبقاً عن طبق