{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ 15أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاّ النَّارُ وحَبِطَ ( 1 ) مَا صَنَعُواْ فِيهَا وبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ16} [ 1516] .
تعليق على آية
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}
في الآيتين تقرير بأن الذين يتوخون بما قد يعملون سعادة الحياة الدنيا وزهرتها والتمتع بالجاه والثروة والسلامة فيها فقط فإنهم قد ينالون جزاء عملهم فيها دون بخس ولا نقص ،ولكن أعمالهم هذه لن تنفعهم في الآخرة ؛لأنها قد انحصرت في الدنيا وأغراضها واستهدفت النفع العاجل والجزاء السريع .فهي بالنسبة للآخرة باطلة معدومة الأثر ولن يكون لأصحابها إلاّ النار ؛لأنها لم تصدر عن إيمان بالله ورغبة في رضائه وتقواه و تنفيذ أوامره .
وواضح من فحوى الآيات وروحها أن الأعمال المذكورة فيها هي أعمال البر والخير التي يعملها بعض الناس ابتغاء للجزاء وللذكر في الحياة الدنيا وحسب .
ولقد روى الطبرسي عن الجبائي أن المقصود بالذكر هم المنافقون الذين كانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم للغنيمة دون نصرة الدين ،وليس من خلاف في مكية الآيات .ويكون هذا القول بناء ذلك من قبل التطبيق المتأخر .
وورود الآيتين عقب الآيات السابقة يلهم أنهما في صدد الكفار وفي سياق ما هو دائر بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من حجاج وجدل وهما والحالة هذه استمرار للسياق .ويظهر أن الكفار كانوا يتبجحون بعمل بعض المكرمات ويظنون أن ما يسّره الله لهم من مال وجاه ورفاه بسبب ذلك فأريد الرد عليهم بما انطوى تقريره في الآية على النحو الذي شرحناه .وفي سورة ( المؤمنون ) آيات قد يكون فيها إشارة إلى ذلك وهي:{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ 54 أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وبَنِينَ 55 نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ 56} .
والآيات بالإضافة إلى كونهما في معرض الرد على الكفار والتنديد بهم فإن إطلاق الخطاب فيهما يجعلهما عامتي التوجيه لكل الناس ،ويدخل في ذلك المسلمون ،وأنهما قد توختا أيضا كما يتبادر:
1تقرير ما للنية من أثر في عمل المرء ونتائجه .
2دعوة الناس إلى عمل الخير والسير في طريق الحق والهدى لا بقصد الجزاء الدنيوي العاجل لأن هذا قد يحدث وقد لا يحدث ،وإذا حدث فلا يكون دليلا على أن قصد عمل الخير لذاته صادق ومخلص .
3تثبيت فكرة الآخرة وتقرير وجوب الإيمان بالله ومراقبته وتقواه في ما يعمله المرء في الدنيا أملا في رضاء الله وغفرانه والسعادة الأخروية الخالدة .فإذا صدر المرء في عمله عن هذا القصد والأمل مع مرافقة الإيمان استوى عنده نيل الجزاء الدنيوي وعدمه وأقدم على عمل الخير لذاته ابتغاء رضاء الله ورضوانه .وفي هذه المقاصد من السمو والتلقين والتربية الأخلاقية ما هو رائع جليل .
ولقد أورد البغوي في صدد مدى الآية حديثا عن أنس بن مالك فيه توضيح وتبشير جاء فيه:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظلم الله المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة ،وأما الكافر فيطعم بحسانته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا ".
ولقد تكرر تقرير ما قررته الآية مرارا بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها حيث يفيد هذا أن حكمة التنزيل قد أسبغت على هذا الأمر خطورة لما فيه من تلقين جليل سام .ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا عن أبي هريرة يفيد أن ما قررته يشمل أو يتناول الذين يعملون الأعمال الصالحة من المسلمين رياء مهما كانت أعمالهم .
وقد روى مسلم والنسائي والترمذي حديثا مقاربا لما ورد في الطبري عن أبي هريرة أيضا ،وقد جاء في حديث الترمذي:"قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ،فأُتِيَ به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها ؟قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ .قال: كذبتَ ولكنك قاتلتَ ؛لأن يُقال جريء ،فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها ؟قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن ،قال: كذبت ،ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم ،وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه ،فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال: ما عملت فيها ؟قال: ما تركتُ من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك .قال: كذبتَ ولكنكَ فعلتَ ليقال هو جواد فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار "{[1174]} .