{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ( 31 )} [ 31] .
روى المفسرون أن الآية نزلت ردا على تحدي أبي جهل وغيره من زعماء المشركين ؛حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب عنهم جبال تهامة حتى تتسع لهم رقعة الأرض للزراعة وأن يحيى موتاهم حتى يخبروهم إن كان ما يقوله حقا .
وقد تكون الرواية صحيحة ،ولكنا نرجح أن الآية لم تنزل بمفردها وفي مناسبة هذا التحدي ؛لأنها منسجمة جدا مع السياق السابق .فضلا عن عطفها عليه .وفي إحدى الآيات القريبة في السياق حكاية تحد من الكفار باستنزال آية فمن المحتمل أن تكون بسبيل الرد عليهم .
على أن جملة{أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} تورد على البال احتمالا آخر ،وهو أن المسلمين كانوا يتمنون أن يجاب المشركون إلى طلبهم أملا في إيمانهم وحرصا عليه ،فأريد بالجملة أن يقال لهم إنه ليس من شأن الآيات أتحملهم على الإيمان .وهذا التمني من المسلمين ليس الأول ،فقد وقع قبل ،وحكته آيات سورة الأنعام بعبارة مقاربة:{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ( 109 ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ( 110 ) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ( 111 )}والضمير في{يشعركم} عائد إلى المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات .
وهذا الاحتمال لا يتعارض مع القول: إن الآية متصلة بالسياق السابق كما هو واضح .
وهناك قراءة مروية عن علي وابن عباس و غيرهما تجعل تعبير ( يتبين ) بدلا من ( ييأس ) على ما ذكره الطبري وغيره .وصحة هذه القراءة لا تخلّ بالمعنى المراد ؛حيث تكون بمعنى ( ألم يتيقن المؤمنون مما رأوه من شدة عناد الكفار أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) وإن كانت كلمة( ييأس ) أقوى تعبيرا في هذا المقام حيث ينطوي فيها تقرير كون ما ظهر من الكفار من عناد من شأنه أن ييئس المؤمنين من ارعوائهم .
ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن الآيةوهي تتضمن الإشارة إلى شدة عناد الكفار وإصرارهم وترهص باليأس منهم ولو على سبيل تسلية المؤمنينإنما تسجل واقع أمرهم حين نزولها ؛حيث اهتدى معظمهم وآمنوا .
ولقد روى المفسرون{[1203]} عن ابن عباس أن جملة{ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} أنها السرايا التي كان يبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإزعاجهم ،وهذا يقتضي أن تكون الآية مدنية .ولقد روى بعض الذين ذكروا مكية السورة أن هذه الآية مدنية ؛حيث يكون في ذلك – إذا صح – تأييد للرواية .غير أن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية فيها صورة مكية لا تتحمل شكا مما يجعلنا نتوقف في مدنية الآية .ونرجح أن القارعة هي ما روي عن إصابة أهل مكة بالجوع ،أو من قبيل الإنذار مما تضمنته آيات سورة الدخان [ 8-16] والمؤمنون [ 75-77] و السجدة [ 21] التي لا خلاف في مكيتها على ما شرحناه في سياقها .
وروح الآية ،بل ونصها يزيل ما يمكن أن توهمه عبارة{أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} من كون عدم إيمان الكفار قد كان لأن الله لم يشأه .فالعبارة من جهة أسلوبية بسبيل تسلية المؤمنين وتطمينهم وتسكين روعهم .والجملة الأخيرة من الآية من جهة أخرى قوية الدلالة على كون الكفار قد كفروا عن عمد وتصميم فاستحقوا قواصم الله بما صنعوا وبالتالي قوية الدلالة على أن كفرهم كان باختيارهم .وطبعا إن هذا لا يعني أنهم كفروا رغم مشيئة الله .فالأسلوب القرآني قد جرى على نسبة كل شيء إلى هذه المشيئة من باب كون الله تعالى هو المتصرف المطلق بخلقه وكونه .ويمكن أن يقال: إن ترك الناس لاختيارهم وجعلهم ذوي قدرة وقابلية للاختيار هو نفسه بمشيئة الله فيزول الإشكال .وفي جملة{قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} التي سبقت هذه الآية ثم جمل{كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} [ يونس: 33] و{ويضل الظالمين} [ إبراهيم: 27] و{يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة:26] معالجة قرآنية أخرى لهذا الإشكال .والآية التالية لهذه الآية تنطوي على توكيد لذلك أيضا .وفي سورة يونس آية فيها عبارة مثل هذه العبارة واضحة الدلالة على أنها بقصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم .وتهدئة روعه ؛حيث يتأكد بهذا ما ذكرناه من أهداف العبارة القرآنية الواضحة .والله أعلم .