يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله:( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) أي:لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورها ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك; لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به ، جاحدون له ، ( بل لله الأمر جميعا ) أي:مرجع الأمور كلها إلى الله ، عز وجل ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، ومن يهد الله فلا مضل له .
وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة; لأنه مشتق من الجميع ، قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة قال:قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم:"خففت على داود القراءة ، فكان يأمر بدابته أن تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه ". انفرد بإخراجه البخاري .
والمراد بالقرآن هنا الزبور .
وقوله:( أفلم ييأس الذين آمنوا ) أي:من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا ( أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة "معناه:أن معجزة كل نبي انقرضت بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد ، لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا يشبع منه العلماء ، هو الفصل ليس بالهزل . من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، أنبأنا بشر بن عمارة ، حدثنا عمر بن حسان ، عن عطية العوفي قال:قلت له:( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) الآية ، قالوا لمحمد ، صلى الله عليه وسلم:لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية . قال:قلت:هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ؟ قال:نعم ، عن أبي سعيد ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .
وكذا روي عن ابن عباس ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري ، وغير واحد في سبب نزول هذه الآية ، فالله أعلم .
وقال قتادة:لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم ، فعل بقرآنكم .
وقوله:( بل لله الأمر جميعا ) قال ابن عباس:[ أي] لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ، ولم يكن ليفعل ، رواه ابن إسحاق بسنده عنه ، وقاله ابن جرير أيضا .
وقال غير واحد من السلف في قوله:( أفلم ييأس الذين آمنوا ) أفلم يعلم الذين آمنوا . وقرأ آخرون:"أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ".
وقال أبو العالية:قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا .
وقوله:( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم ) أي:بسبب تكذيبهم ، لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا ، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى:( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ) [ الأحقاف:27] وقال ( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ) [ الأنبياء:44] .
قال قتادة ، عن الحسن:( أو تحل قريبا من دارهم ) أي:القارعة . وهذا هو الظاهر من السياق .
قال أبو داود الطيالسي:حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله:( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) قال:سرية ، ( أو تحل قريبا من دارهم ) قال:محمد صلى الله عليه وسلم ، ( حتى يأتي وعد الله ) قال:فتح مكة .
وهكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، في رواية .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) قال:عذاب من السماء ينزل عليهم ( أو تحل قريبا من دارهم ) يعني:نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم وقتاله إياهم .
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وقال عكرمة في رواية عنه ، عن ابن عباس:( قارعة ) أي:نكبة .
وكلهم قال:( حتى يأتي وعد الله ) يعني:فتح مكة . وقال الحسن البصري:يوم القيامة .
وقوله:( إن الله لا يخلف الميعاد ) أي:لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ) [ إبراهيم:47] .