وإن المشركين طلبوا آيات:{ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه . . .( 37 )} [ الأنعام] ، وكأنهم لا يعتدون بما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من معجزة القرآن ، وأنه سبحانه تعالى تحداهم أن يأتوا سورة من مثله ، وبدا عجزهم ، وظهر إعجازه ، ولم يكن لأي آية غير ذلك التحدي المعجز ، ولأجل ذلك بين الله سبحانه وتعالى مقام القرآن في ذاته ، وأنه أغلى كلام في الوجود ، ولو أن كلامه يسير الجبال لسيرها ، ولو أن قرآنا يقطع الأرض أجزاء لقطعها ، فقال تعالى:
{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} .
جاء في السيرة النبوية أن نفرا من كفار قريش ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتحدونه فيهم أبو جهل ، وعبد الله بن أمية ، فقال عبد الله:إن سرك أن نتبعك سير لنا جبال مكة بالقرآن فادعها عنا حتى نتفسح فإنها أرض ضيقة ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ؛ حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر الجبال تسير معه ، وسخر لنا الريح لنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا ونواتجنا ، ثم نرجع من يومنا ، فلقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت ، فلست أهون على ربك من سليمان بن داود ، وأحى لنا قصى بن كلاب جدك ، أو من شئت أنت من موتنا ، فعيسى كان يحيى الموتى ، ولست أهون عند الله من عيسى ابن مريم .
ولقد حكى القرآن الكريم فيما تكون من قبل عنهم مثل ذلك فقد قالوا:{. . .لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( 90 ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( 91 ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا . . .( 92 )} [ الإسراء] إلى آخر ما تلونا .
وقد نزلت هذه الآية الكريمة:{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} ، ولا نقول:إن أقوالهم التي رواها القرآن الكريم عنهم أم التي روتها كتب السنة هي السبب في نزول هذه الآية كما ذكر في أسباب النزول ، أم أن الآية الكريمة جاءت لتحقيق معنى في القرآن لا يوجد في غيره من الأمور الخارقة للعادة ، فالآية الكريمة تبين أن القرآن أعلى من كل ما ذكروه وطلبوه من آيات لولا أنه من طبيعة غير طبيعتها ، ومنهاج غير منهاجها ، وهو أبقى وأخلد ، فما يطلبون هو حوادث تنقضي بانتهاء وقتها ، أما القرآن فباق خالد إلى يوم الدين ، يتحدى الأجيال كلها شامخا عاليا أن تأتي بمثله ، كما تلونا من قبل:{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( 88 )} [ الإسراء] .
يقول تعالى:{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} ، أي لو ثبت أن قرآنا يقرأ ويتلى سيرت به الجبال ، فانتقلت من أماكنها ، وانفسحت عن شعابها لتتسع رقعة للزرع والغراس ، أو قطعت الأرض فتشققت – لا تكون منها بحار تجري فيها المياه ، أو يكلم به الموتى بمعنى أنه يحييها ، ثم يكلمها ، وجواب الشرط محذوف يفهم من سياق القول ، وهو لكان هذا القرآن ، ولكن الكلام لا يسير الجبال ، ومع ذلك فهو أقوى تأثيرا ، وكان يمكن أن يؤثر في قلوب المشركين بأشد من ذلك ، لولا أن عنادهم حجر قلوبهم ، وكما قال سبحانه:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . . .( 21 )} [ الحشر] ، ولكن القلوب التي سكنها الشرك والكفر ، وهي كالحجارة أو أشد قسوة ، بل لله الأمر جمعيا ، الإضراب للانتقال بين هذا إلى بيان أن اختيار المعجزات من أمر الله ، وله وحده كل الأمر .
ويقول تعالى:{ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} ، فسر كثير المفسرين أن ييئس هنا بمعنى لم يعلم ، وساقوا شواهد من العربية للدلالة على ذلك ، وفسرها الزمخشري بذلك ، وبجواز أن تكون ييئس بمعنى اليأس ، وهو اليأس من إيمان المشركين ، ويزكى هذا قوله تعالى بعدها:{ أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} ، ولنترك الكلمة له فهو يقول رضي الله تعالى عنه:
"ومعنى{ أفلم ييأس} أفلم يعلم قيل هي لغة قوم من النخع ، وقيل غنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمينه معناه ؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لن يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك ، قال سحيم بن وئيل الرباحي:( أقول لهم بالشعب ، إذ ييسرونني ، ألم ييئسوا أنى ابن فارس زهدم . . . ) إلى أن قال:( يجوز أن يتعلق{ أن لو يشاء الله} بآمنوا ، على معنى أولم يعتظ من إيمان هؤلاء الكفرة{ لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} .
ومعنى الكلام الأخير ، أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكافرين ، ويعلموا أن لو يشاء الله لآمن الناس جميعا .
وقوله تعالى:{ ألم ييأس} الفاء للإفصاح عن شرط مقدر مؤداه أن تكون المعجزة في هذا المقام من الإعجاز ، يقول الذين كفروا غير معتدين بها ، فلم ييئس الذين آمنوا من إيمانهم ، والاستفهام لإنكار الوقوع أي المعنى ، ونفى النفي إثبات ، والمعنى ييئس الذين آمنوا من أن يهتدوا ، ويعلمون أن لو شاء الله لهدى الناس .
والمعنى لو شاء الله إيمان الناس جميعا لآمنوا ، ولكنه سبحانه وتعالى تركهم ليطهر المؤمن عن نيته ، ويعلم الكافر عن ضلاله ، وتركه الحق ، ويكون الجزاء عقابا أو ثوابا .
وكان على الكافرين أن يرجعوا عن غيهم ، ويسيروا في طريق الرشاد ، فالقوارع تنزل بهم قارعة يعد قارعة ، أو تحل قريبا من دارهم ؛ ولذا قال تعالى:{ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} القارعة:الكارثة الداهية أو الشديدة التي تقرع حسا قرعا ، تنبههم إلى ما هم فيه من الضلال ، فمن لا ينهه الدليل والبرهان ، ولا يجديه البرهان لا ينتبه بالعقل ، بل لا بد من الشدة تقرع حسه ، وكان الإقدام قبل النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يقتنعوا وعائدوا ينزل بهم ما يزيل ديار ، أو ريح صرصر ، أو غرق ، وغير ذلك مما يبيد خضراءهم ، وتبقى من بعدهم من اتبع النبيين ، أما محمد ، فإن رسالته ، باقية خالدة ، لا يؤثر في اتجاهها كفر من كفر ، ولكن يغالب الكفر بالإيمان ، ليكون من بعدهم من يعبد الله تعالى ، ويدعو إلى ربه ؛ ولذلك كانت القوارع التي قرع حسهم ، ليست إبادة ، ولكنها مغالبة ، ودفع الفساد ، فالقارعة التي تصيب الكافرين هزيمة منكرة ، تنزل بهم كالتي نزلت بهم ببدر ، والخندق ، وكأحد فقد رجعوا فيها إلى حنين من الغنيمة بالآيات ، وإن كان المسلمون توجهوا بهم قرع ، وكان تعليما ، وتوجيها ، كما قال تعالى:{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . . .( 140 )} [ آل عمران] ، لكن قرحهم كان هزيمة ، وقرح المؤمنين لم يكن انهزاما ولا فرارا .
فالقارعة هي الهزيمة لا تزال تصيبهم مرة بعد أخرى ، أو تحل قريبا من دارهم ، في السرايا التي يبثها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يبقيها النبي صلى الله عليه وسلم حول مكة تدعو إلى الله ، وتنذرهم ، حتى كان صلح الحديبية ، وبه أمنوا على أنفسهم ، وأخذ الناس يدخلون في دين الله في مكة وغيرها .
وتلك القوارع ، والسرايا التي تحل قريبا من دارهم ، حتى يأتي وعد الله بالنصر الحاسم ، وأن تكون الكلمة للإسلام في البلاد العربية وما وراءها ، وهذا معنى قوله تعالى:{ حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} .
وإن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم في إبان نصرته ، كانوا في إبان مقامه في مكة ، وهم يحسبون أنه في قبضة أيديهم والله ناصره ، وخاذلهم ، ألم ترهم يقولون بعد حديث هرقل لهم في سؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد أمر أمر ابن أبي كبشة".