معجزة القرآن تسير الجبال
قال تعالى:
بين الله تعالى لنبيه الكريم الذي لاقى ما لاقى في سبيل دعوة الحق أن ذلك سنة الجهاد في سبيل دعوة الرسل وقد أتيت في رسالته بأمر خطير ،{ فاصبر كما صبروا أولوا العزم من الرسل . . . ( 35 )} [ الأحقاف] .
قال تعالى:{ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم} ، أي كذلك الإرسال الذي أرسلنا به الرسل السابقين أرسلناك ، فالشبه هو إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإرسال الذي حمله الواجبات الكبرى والجهاد الأعظم ، والمشبه به إرسال الأنبياء السابقين ، فالإشارة هي إلى إرسال الرسل السابقين .
ويصح أن تقول:إن الإشارة إلى إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو المشبه به ، والمشبه هو إرسال الرسل إلى الأمم الأخرى ، والمعنى على هذا أن ما تعانيه من إنكار المنكرين في سبيل الحق الذي لا ريب عاناه من قبلك رسل سبقوك في أمم قد خلت ، فاصبر كما صبروا فلا تحسب أن من سبقوك وجدوا أرضا طيبة وقولا ولا كلاما مجابا ولا تسليما سهلا لا معاناة فيه .
قوله:{ في أمة قد خلت من قبلها أمم} ، أي أمة الشرك التي قد مضت من قبلها أمم على مثل ما هي عليه من إنكار وجحود ولاقى رسلهم منهم مثل الذي تلاقى من عنت واستهزاء سخرية ، وإيذاء لمن اتبعوك ، وفتنة للضعفاء في دينهم ، وعناد ومحاداة لله ولرسوله ، ولأهل الحق ؛ ولذلك قال تعالى:{ قد خلت من قبلها أمم} ، أي مضت من قبلها أمم .
والغاية من الرسالة التي بعثت بها أن تتلو عليهم القرآن ؛ ولذا قال:{ لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} اللام للتعليل ، والمعنى أرسلناك لتتلو عليهم القرآن الذي أوحيناه إليك ، والتلاوة القراء المتتابعة المتناسقة في اللفظ والمعنى ، ويصح أن تكون بمعنى الترتيل ، وقد نقل إلينا القرآن متلوا مرتلا ، فلم تثبت روايته هو بذاته فقط ، بل تواتر طريق ترتيله ، فجبريل الأمين علم النبي صلى الله عليه وسلم ترتيله ، كما حفظه القرآن ذاته ؛ ولذلك نزل القرآن منجما ، ليحفظه النبي صلى الله عليه وسلم مرتلا ؛ ولذا قال تعالى في بيان حكمة نزوله منجما:{. . .كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( 32 )} [ الفرقان] .
ومع هذا الترتيل الذي تذهب به المعاني في النفس حالهم حال إنكار شديد ؛ ولذا قال تعالى:{ وهم يكفرون بالرحمن} وقد نص على كفرهم بالرحمن ، وكان التعبير بالرحمن عن الذات العلية مع أنفسهما اسمان للذات العلية ، ولا تتغير الذات بكثرة أسمائها ، وإن التعبير بالرحمن لملاحظة الشاملة ، فهم مغمورون برحمته في وجودهم وكلاءتهم ، إذ هو الذي يكلؤهم في السموات والأرض ، ومع أن نعمه سابقة لهم ، ورحمته لهم ، كفروا به ، والتعبير بالمضارع يفيد استمرار كفرهم وتجدده آنا بعد آن .
ولقد روى أن العرب كانوا في إيمانهم الناقص بالله سبحانه وتعالى ما كانوا يعرفون إلا لفظ الجلالة ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يملى شروط صلح الحديبية وابتدأه بسم الله الرحمان الرحيم ، قالوا:الرحمن هو رحمتن اليمامة لا نعرفه قل باسمك اللهم ، قد نزل فيهم:{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى . . . ( 110 )} [ الإسراء] .
وقد أمر الله تعالى أن يعرفهم بالرحمن فقال تعالت كلماته:{ قل هو ربي} ، أي هذا الذي يكفرون هو ربي الذي خلقني ورباني وقام على شئوني ، فهو الحي القيوم القائم على كل شيء ، وهو الله .
{ عليه توكلت} ، أي عليه وحده توكلت في الدنيا ؛ لأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للدلالة على القصر ، أي لا أتوكل على غيره ، والتوكل لا ينافي العمل ، بل إن التوكل بين أمرين كلاهما باطل ، الأمر الأول المحيطة بكل شيء ، والثاني من الباطل التواكل ، وهو أن يهمل الأخذ بالأسباب ، بل يأخذ بالأسباب ، ويترك الوصول إلى النتائج لله سبحانه وتعالى فهو تعالت قدرته لا يغفل هن شيء ، والقادر على كل شيء{ وإليه متاب} ، ( متاب ) مصدر ميمي لتاب بمعنى رجع وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص ، أي أن مرجعي إليه وحده ، وله الثواب والعقاب وحده ، لا شريك له ، فالملك اليوم لله الواحد القهار .