وقد بين الله تعالى أن النبيين استهزئ بهم كما استهزئ به ، فإن من لا يدرك الحق يهزأ به ، ومن استغرقتهم المادة يستهزئون بأهل الحق ، والعالي والروح ؛ ولذا قال تعالى:
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ( 32 )} .
{ استهزئ برسل} جاءوا مبشرين ومنذرين من قبلك ، والاستهزاء يدل على جهل المشركين بما يستهزئون ، ونسيانهم فضل من يسخرون منهم ، ويدل أيضا على أنهم لا ينظرون للأمر نظرة من يجد ولا يهزل ، ويدل على سيطرة العبث العابث ، واللهو الماجن على أنفسهم ، وهذه حال تحير الداعي إلى الحق من أين يحملهم على أن ينظروا جادين غير عابثين ، ولا مازحين .
ولقد أكد الله استهزاء السابقين برسلهم ، باللام ، وقد ساق الله تعالى ذلك لنبيه ليتسلى عن إعراضهم واستهزائهم ولئلا يذهب به اليأس من قومه ، وألا يرجو الانتصار منهم ، فقد استمر الاستهزاء وأملى لهم ، أي أعطاهم ملاوة من الزمن ، حتى ظنوا أنه لا عاقبة مؤلمة تنتظرهم ؛ ولذا قال تعالى:
{ فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب} .
أمليت كما ذكرنا أعطيتهم ملاوة من الزمن إمهالا من غير إهمال لاستهزائهم ، وسخريتهم من الحق ، والفاء لبيان أن ما بعدها مسبب عما قبلها ، والمعنى كان استهزاؤهم سببا للإملاء لهم ، حتى يأخذهم ، وهم لا يتوقعون ، مثل قوله تعالى:{ وأملي لهم إن كيدي متين ( 183 )} [ الأعراف] .
وثم للدلالة على التراخي ، أي أنه أمد لهم أمدا غير قصير ، حتى ظنوا أنه لا مؤاخذة على ما يفعلون ، وغرهم الغرور ، وحسبوا أن الدنيا قد طابت لهم بحذافيرها ، ثم أخذتهم ، أي أشعرتهم بسلطاني ، وأنى أمهل ولا أهمل والأخذ كناية عن الإشعار بالسلطان ؛ لأن الأخذ يتضمن أنهم صاروا غير خارجين عن سلطانه ؛ لأن الأخذ أقصى ما يدل على التمكن ، وأن يكونوا في قبضته يصرفهم كيف يشاء ، وذكر الله تعالى عقابه فقال:{ فكيف كان عقاب} ياء المتكلم محذوفة على وجود ما يدل عليها ، والمحذوف مع وجود ما يدل عليه يكون كالمذكور ، بل إن تقديره بجهله مذكور ، لم يبين الله سبحانه وتعالى العقاب ، ولكن أشار إليه إشارة تدل على هوله ، وعلى أنه كان حاسما قاطعا فمن غرق ، أو جعل الأرض سافلها ، ومن ريح صرصر عاتية ، ولقد قال تعالى:{ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ( 48 )} [ الحج] .
وكم قال تعالى:{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( 102 )} [ هود] .
وفي الصحيحين:"إن الله ليملى للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته".