الأوثان ليس لها وجود حتى تعبد
هذا بيان لبطلان عبادة الأوثان ، وهو برها يستمد منها ، لا من أمر خارج عنها ، فالله الأعلى يوازن بين قدرته على كل شيء ، وحياطته لكل شيء ، وقيامه تعالى على الأنفس ، وبين الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ، وأنها لا حقيقة لها في عالم الأحياء ، يقول تعالى:{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} ، الإستفهام هنا للتوبيخ ، وبيان عجز آلهتهم ، وقدرة الله تعالى ، وقائم معناها وقيام على شؤون الأنفس ، خلقها ، وهي مربوبة لها ، وعالم بها ، ومحاط عليها ، يعلم ما تسره وما تعلنه ، وما تظهره ، وما تخفيه .
ويقول ابن كثير في معنى هذه العبارة السامية:{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي} أي حفيظ عليهم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون خير وشر ، ولا تخفى عليه خافية{ وما تكون في شأن وما تتلو من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه . . .( 61 )}( يونس ) فمعنى قام ليس ضد القعود ، وإنما معناه القيام على شؤون الأنفس ، والعلم بها ، كما قال تعالى:{. . .هو الحي القيوم . . .( 255 )}( البقرة ) ، عبر عن القيام بهذه المعاني ؛ لأن القيام يدل على الحركة ، والحركة تدل على معانة الأعمال خيرها وشرها ، وهو بالنسبة لله تعالى القيام على شؤون هذا الوجود ، وهو هنا الأنفس .
وذكر الله تعالى كل الأنفس للدلالة على عموم تدبيره للأنفس والعلم بما تفعل من خير وشر ، وقوله تعالى:{ بما كسبت} يتضمن العلم بكل ما تصنع النفوس العاملة ، والجزاء على ما تفعل ، وفي ذلك بعضها لإنذار العصاة ، كمنا قال تعالى:{ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار( 10 ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله . . .( 11 )} .
وقوله تعالى:{ أفمن هو قائم على كل نفيس} ، لتمام الموازن تكون التسوية مقتضية محذوفا قدرا تقديره كي لا يستطيع شيئا ، ولا يقوم على شيء ولا يضر ولا ينفع .
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ضلالهم في عبادة الأوثان ، فقال تعالى:{ وجعلوا لله شركاء} ، وهذه الجملة حالية ، والحال أنهم جعلوا لله شركاء يشركونه في العبادة مع أنها لا تنفع ولا تضر ، ومع ذاته العلية جلت عن المشاركة ، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يسألهم عن حقيقتها ، ولكنها من بيان الكنه والحقيقة يتبين بطلان ما يعتقدونه قال تعالى:{ قل سموهم} عبر عنهم بضمير ما يفعل على حسب زعمهم وأوهامهم ، وإلا فهي حجارة لا تضر ولا تنفع ، ولا تعقل ولا تدرك .
{ سموهم} ، أي اذكروا أسماءهم ، وأوصافهم ، أي شيء لهم من الأسماء والصفات ، وإنهم إذا جاءوا إلى ذلك ، قالوا:إنها أحجار سميت اللات أو العزى أو هبل ، أو نحو ذلك من الصفات التي تجعلها دونهم ، فكيف يعبدون ما هي دونهم أو لا وجود لها في حقيقة أمرها ، إلا أن تكون أحجارا ، لا تنطق ولا تضر ، ولا تنفع .
{ أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} ، أم للإضراب الانتقالي مع تضمنها معنى الاستفهام الإنكاري التوبيخي ، أي أتنبئونه بشيء لا يعلمه في الأرض ، وهو خالقها ، والذي يعلم ما في السموات وما في الأرض ، أي أتنبئونها بأمر لا وجود له ، والمؤدى أنها لا وجود لها في الأرض فهل تنبئونه بأمر لا يعلمه في هذه الأرض ، وهذا كلام يؤدى لا محالة إلى أشياء لا وجود كآلهة في الأرض لعلمها سبحانه .{ أم بظاهر من القول} ، أم للإضراب عن السابق مع دلالتها على الاستفهام التوبيخي الذي ينبههم إلى فساد قولهم ، والمعنى أهذا العلم بظاهر من القول الذي لا يدل على حقيقة فقط ، إنما أوهامه جعلتهم يرددون ظاهرا من القول لا يستطيعون أن يقولوا فيه إنه شيء له وجود ، وصفات اقتضت الألوهية .
والحقيقة أنه زين لهم وهم لا مدلول له جعلهم يكفرون ، وهم لا يشعرون ؛ ولذا قال تعالى:
{ بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل} .
بل الإضراب عن القول ، أي أنه ما دام قد ثبت أنه لا حقيقة لأصنامهم التي يعبدونها ، فأوصافهم لا تثبت ألوهية ، بل لا تثبت وجود لها نفع وضرر ، فالأمر أنهم زين لهم ما هم عليه بوهم توهموه ، وخيال تخيلوه ، وكان ذلك الخيال أساسي مكرهم ، وتدبيرهم ضد الحق وأهل الإيمان ، وبه صدوا عن السبيل ، وصدوا غيرهم عن الطريق السوي ، وفي قوله تعالى:{ وصدوا عن السبيل} قراءة بالضم ، أي أنه بخذا التزيين الضال صدوا عن الطريق الحق ، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وهناك قراءة بالفتح ، أي صدوا غيرهم عن الحق بالاعتداء ، والإيذاء ، والاستهزاء بالرسل ، ويجب أن يراد القراءتان أنه لا مانع من الجمع بينهما ، فهم أبعدوا بأوهامهم عن الحق ، وأوغلوا في الضلال بإبعاد غيرهم عنه .
وأكد الله سبحانه وتعالى الحكم بالضلال عليهم ، فقال عز من قائل:{ ومن يضلل الله فما له من هاد} ، أي من يحكم الله تعالى بضلاله ، لأنه سار في طريق الغواية وصل إلى الضلال ،{ فما له من هاد} من لعموم النفي ، أي ليس له من هاد أي هاد ، فلا هادي بعد الله .