2 البينات: الآيات الواضحة أو المعجزات .
3 الزبر: جمع زبور بمعنى الكتاب والكتب .
4الذكر: كناية عن القرآن وقد وصف القرآن بالذكر في آيات عديدة مر بعضها .
تعليق على جملة
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}
واستطراد إلى السنة النبوية القولية والفعلية
وهدفها وواجب المسلمين نحوها
والمتبادر أن هذه الجملة لا تعني تبليغ الناس ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن فقط ،بل تعني أيضا توضيح وتفسير وشرح ما قد يكون في حاجة إلى ذلك من القرآن .وفي هذا إيذان رباني بأن الله سبحانه يعلم استعداد رسوله لذلك ،وأن ذلك من أسباب اصطفائه لرسالته ،وأن ما يثبت عنه من ذلك واجب الاتباع كما هو شأن القرآن .وقد أيدت هذا المعنى بصراحة هذه الجملة:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} في آية سورة الحشر السابعة .وهناك آيات عديدة أخرى فيها تأييد لذلك فيما هو المتبادر مثل آيات سورة النساء هذه:{تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم 13 ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين 14} ،وآية سورة النساء هذه:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا 59} ،وآية سورة النساء هذه:{من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا 80} ،وجملة:{فردوه إلى الله والرسول}في آية النساء [ 59] مهمة في هذا الباب .فواجب المسلمين إذا اختلفوا في أمر أن يرجعوا فيه القرآن الذي يمثل الله عز وجل فإن لم يجدوا فيه نصا حاسما محكما وجب عليهم الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وسنته القولية والفعلية الثابتة بعد موته .ومخالفة ذلك خروج من ربقة الإسلام ،وينطوي في هذا تقرير كون بيان الرسول وسنته حاسمين فيما ليس فيه حكم قرآني حاسم ومحكم .
ويحسن أن ننبه في هذه المسألة على نقطة هامة في الأمر متفق عليها من جمهور الفقهاء والمحدثين وهي أن السنة النبوية الصحيحة القولية والفعلية لا تتناقض مع أحكام القرآن الحاسمة المحكمة ولا تخرج عن نطاق خطوطه ومبادئه وتلقيناته وتوجيهاته العامة .وأنها بسبيل توضيح وتفسير وشرح وتخصيص وإتمام ما يحتاج إلى توضيح وتفسير وشرح وتخصيص وإتمام من آيات القرآن وأحكامه أو تشريع لما سكت عنه القرآن كليا أو جزئيا ،وهذا هو المقصود كما هو المتبادر من جملة{ليبين لكم} [ النساء:4] والله أعلم .
ولقد روى أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ،ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه .ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ،ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه ،فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه ){[1247]} مما فيه توضيح وتدعيم لما نحن في صدده .
ولقد روى الإمام أحمد عن أبي حميد وأبي أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ،وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد فأنا أبعدكم عنه ){[1248]} مما قد يكون فيه ضابط آخر لصحة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويحسن كذلك أن ننبه على مسألة هامة أخرى ،فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابة شيء غير القرآن عنه{[1249]}حتى لا يختلط بالقرآن وهو وحي الله .ولذلك لم يدون في حياته من سننه القولية والفعلية إلا القليل ،حيث روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص من شباب الصحابة دوّن بعض الأحاديث في سجل أو أوراق عرفت بالصادقة أو المصدقة ولما تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار بعد الفتوحات ،وانضوى إلى الإسلام أجيال جديدة من العرب وغير العرب صار الأمر في حاجة إلى معرفة السنن النبوية فبدئ بتدوينها في نطاق ضيّق أولا في القرآن الهجري الأول ثم اتسع النطاق في القرنين الثاني والثالث حتى صارت الأحاديث تعد بمئات الألوف بعد أن كانت تعد بالمئات ثم بالألوف القليلة{[1250]} .ولقد نشب بين المسلمين في القرون الثلاثة الأولى نزاع وخلاف فكان ذلك مما أدى إلى هذه الكثرة العجيبة ،وقد اختلط الغث فيها بالسمين بسبب بقاء كثير منها في الصدور تتداولها الألسنة ،وعرف على التحقيق في الوقت نفسه أن بعض الزنادقة وذوي الأهواء تجرؤوا على رسول الله وأصحابه فوضعوا عليهم أحاديث كثيرة أيضا .غير أن الله قيض لدينه وسنة نبيه رجال صدق وإخلاص في القرون الثلاثة فتجردوا لتحرير السنة والأحاديث وتصنيفها واستطاعوا أن يستخلصوا عددا كبيرا منها يتسم بالصحة والصدق رواية ومتنا ويشع فيها نور القرآن والنبوة ويتسق مع خطوط القرآن ومبادئه وأحكامه ولا يتناقض معه .منها ما احتوته كتب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومالك وهو الطبقة الأولى .ومنها ما يأتي بعد هذه الطبقة من كتب أئمة الحديث الآخرين الذين يأتي في مقدمتهم الشافعي وابن حنبل وأبو عبيد وأبو يوسف والبيهقي وابن ماجة والدارقطني والتي فيها أيضا أحاديث كثيرة يصح أن تكون صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .وفي هذه الأحاديث ،وتلك من روائع التعليم والبيان والتلقين والهدى والحكمة والسداد في مختلف الشؤون ما يتساوق مع مبادئ القرآن وتلقيناته وخطوطه وتقريراته العامة ،مما أوردنا كثيرا منه ،وسوف نورد كثيرا منه في مناسباته ،يحدوهم إلى ذلك إيمانهم بالله ورسوله وقصد الخدمة الخالصة لدين الله وشرائعه .ويتهيبون في كل ما بذلوه من جهد ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: ( إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار ){[1251]} .وما ورد في حديث ثان رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ){[1252]} .وحديث ثالث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ){[1253]} .وحديث رابع رواه الإمام مالك عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسول الله ){[1254]} .
وبفضل هذه الجهود المبرورة لم يبق والحمد لله محل للقول بأن السنة النبوية القولية والفعلية قد اضطربت ولم يعد إمكان للأخذ بها ،وكل من يقول هذا بعد أن ثبتت صحة عدد كبير من الأحاديث والسنن القولية والفعلية مارق أو عدو مغرض يهدف إلى تعطيل مصدر رئيسي من مصادر الشريعة الإسلامية عرف منه كثير مما سكت عنه أو عن تفصيله القرآن سواء في الأمور التعبدية أم في الأمور المدنية .
وكل ما يمكن أن يقال: هو وجوب التروي والأناة في تلقي السنة النبوية وحسن تفهمها ودراستها ،من حيث الرواة والمتون والمطابقة إجمالا مع القرآن وعدم التعارض والتناقض .وقد يكون فيما ورد في كتب الأحاديث المعتبرة منها ولا يتناقض مع صريح القرآن أشياء لا يدركها عقل الإنسان العادي من شؤون الدنيا والآخرة وأحداث الأمم والأنبياء السابقين وما يكون في آخر الزمان ومن الشؤون الغيبية مما سبق التنبيه إليه في مناسبات عديدة .ومثل هذا موجود في القرآن المجيد فلا يجوز للمسلم أن يسارع إلى إنكارها ويجب أن يفوض الأمر في ذلك إلى الله وحكمة الرسول كما هو واجبه بالنسبة لما من مثل ذلك في القرآن مع الاعتقاد بأنه لابد من أن يكون في ذلك من حكمة ولو لم يستطع لمحها ،هذا مع التنبيه على أن علماء الحديث رحمهم الله قد عرفوا كذب كثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونبهوا عليها كما نبهوا على ما هو ضعيف أو منقطع من الأحاديث أيضا فصار من الممكن للنبهاء وذوي الدراية التعرف عليها والتوقف فيها وعدم الأخذ بها .أما العامة فعليهم أن يسألوا أهل العلم الموثوقين في درايتهم وورعهم ويقفوا عند كلامهم{[1255]} .
ومن الجدير بالتنبيه في هذا المقام: أن ما هناك من اختلاف بين علماء الحديث والفقه في سنن رسول الله القولية والفعلية الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة ليس هو على صحتها ،وإنما هو على احتمال النسخ فيها وبسبيل ترجيح الأقوى سندا منها والاجتهاد فيما إذا كانت وجوبية أو استحبابية أو عامة أو خاصة الخ مما لا يتسع المقام لتفصيله .
هذا ،وهناك مسألة هامة يحسن التنبيه عليها أيضا ،وهي أن معظم الأحاديث النبوية مدنية الصدور والرواة ،وحتى التي فيها تفسير الآيات المكية وأسباب نزولها وتطبيقاتها وأحداث السيرة النبوية في العهد المكي .وعلى سبيل المثال نذكر أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم الذين روي عنهم آلاف الأحاديث{[1256]} .فأكثرهم من أهل المدينة أو ممن انضم إلى الإسلام في العهد المدني والقرشيون منهم كانوا أحداثا أو أطفالا حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا يصح أن يكونوا قد رووا عنه شيئا في مكة مثل عائشة وابن عباس وابن عمر .وهناك عشرات من أصحاب رسول الله ممن رووا المئات والعشرات من الأحاديث من هذا النوع{[1257]} .
والحكمة التي نلمحها في ذلك: أن العهد المكي كان عهد دعوة وحجاج ولجاج بين النبي والكفار ،وكان قسم كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الحبشة ولم يبق إلى جانب النبي إلا القليل .ومعظم الأحاديث هي من ناحية أخرى في صدد التشريع والتعليم والتأديب للمسلمين وهذا إنما كان مسرحه في الدرجة الأولى العهد المدني .
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يعرفون ما كانت تذكره الآيات المكية من أحداث والأسباب والمناسبات التي كانت تنزل فيها .فالأسئلة في صددها كانت توجه من أهل العهد المدني للنبي صلى الله عليه وسلم فيصدر منه الجواب فيروونه عنهم .والله تعالى أعلم .