{وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً 2 ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا 3 وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا 7 عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا 8} [ 28]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم ،وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم:
1فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب ،وجعله هدى لبني إسرائيل ،ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا ،ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه .وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة .
2ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا ،فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم ،وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم .وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم ،وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم ،ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان .
3وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا ،ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا ،وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة .
ولقد قال المفسرون{[1301]}: إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته .ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني .وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة .
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين ،فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا .
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا .ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد ،ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها .وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية"يهوذا "التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك ،ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما .وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية ،ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين .وكل هذه الأسفار متداولة اليوم .ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول ،ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد .فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم ،ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة .وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم ،وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا ،وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات .والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا{[1302]} .
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام ،مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات .
ومهما يكن من أمر ،فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها ،وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة .وهذا شأن القصص القرآنية عامة .واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك .
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات .منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح ،ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول .ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم .مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام ،وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام .وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ .
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية .
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى .وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك .