قوله تعالى:{وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ} .
لما بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة عظم شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ،ذكر عظم شأن موسى بالكتاب العظيم ،الذي أنزله إليه ،وهو التوراة ؛مبيناً أنه جعله هدىً لبني إسرائيل .وكرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن ؛كقوله:{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَاءيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجدة: 23-24] ،وقوله:{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} [ القصص:43] الآية ،وقوله:{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيءٍ} [ الأنعام: 154] الآية ،وقوله:{وَكَتَبْنَا لَهُ في الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيء} [ الأنعام: 145] الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى:{أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [ 2] .
اعلم أن هذا الحرف قرأه جمهور القراء{ألاّ تَتَّخِذُونَ} بالتاء على وجه الخطاب ؛وعلى هذا ف«أن » هي المفسرة .فجعل التوراة هدى لبني إسرائيل مفسر بنهيهم عن اتخاذ وكيل من دون الله ؛لأن الإخلاص لله في عبادته هو ثمرة الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه .وعلى هذه القراءة ف«لا » في قوله:{أَلاَّ تَتَّخِذُواْ} ناهية .وقرأه أبو عمرو من السبعة{أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} بالياء على الغيبة .وعلى هذه القراءة فالمصدر المنسبك من «أن » وصلتها مجرور بحرف التعليل المحذوف ؛أي وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأجل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً ؛لأن اتخاذ الوكيل الذي تُسند إليه الأمور ،وتُفوض من دون الله ليس من الهدى ؛فمرجع القراءتين إلى شيء واحد ،وهو أن التوكل إنما يكون على الله وحده لا على غيره .
وكرر هذا المعنى في موضع كثيرة ؛كقوله:{رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [ المزمل: 9] ،وقوله:{قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [ الملك:29] ؛وقوله:{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [ التوبة: 129] ،وقوله:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق: 3] ،وقوله:{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَن عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [ إبراهيم: 11-12] ،وقوله:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} [ هود:56] الآية ،وقوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [ يونس: 71] الآية ،وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [ الأحزاب:3] ،وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [ الفرقان: 58] الآية ،وقوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [ هود:123] الآية ،وقوله:{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران: 173] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً .
والوكيل: فعيل من التوكل .أي متوكلاً عليه ،تفوضون إليه أموركم ؛فيوصل إليكم النفع ،ويكف عنكم الضر .
وقال الزمخشري:{وَكِيلاً} أي رباً تكلون إليه أموركم .
وقال ابن جرير: حفيظاً لكم سواي .
وقال أبو الفرج بن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده .لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل اه ؛قاله أبو حيان في البحر .
وقال القرطبي:{وَكِيلاً} أي شريكاً ؛عن مجاهد .وقيل: كفيلاً بأمورهم ؛حكاه الفراء .وقيل: ربًّا يتوكلون عليه في أمورهم ؛قاله الكلبي .وقال الفراء: كافياً اه والمعاني متقاربة ،ومرجعها إلى شيء واحد ،وهو أن الوكيل: من يتوكل عليه ؛فتفوض الأمور إليه ،ليأتي بالخير ،ويدفع الشر .وهذا لا يصح إلا لله وحده جل وعلا .ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه ؛لأنه لا نافع ولا ضار ،ولا كافي إلا هو وحده جل وعلا ..عليه توكلنا ،وهو حسبنا ونعم الوكيل .