{وإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا 45 وجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا 46نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا 47 انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً 48} [ 4548]
الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم ،وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد .
والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم ،غير أن التمعن فيهما ،وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم ،ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاميمهم ونفورهم .فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه ،والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به ،والأصمّ فلا يسمعه ،وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 7} ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب{[1303]} ،ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف .
والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم ،فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه ،وليس هو المسؤول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير .
على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة ،وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها ،لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة الفتح المكي .
والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى ،وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم .
والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به ،وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم ،حيث كانوا يقولون لهم: إنكم تتبعون رجلا مسحورا ،وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل .وبتشبيههم حالة النبي صلى الله عليه وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه ،مما عنته آية{انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا 48} .
والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا ،ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة{تتبعون} وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش .
والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا: إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة ،ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة ،وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن ،وفي الآيات التالية توكيد لذلك .