{حِجَابًا}: ستاراً .
مناسبة النزول
قيل نزل قوله{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ ...} الآية في قوم كانوا يؤذون النبي ( ص ) باللّيل إذا تلا القرآن وصلّى عند الكعبة ،وكانوا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس إلى الدّين ،فحال الله بينه وبينهم حتى لا يؤذوه .عن الزجّاج والجبائي .
الحجاب المستور
إنها الصورة الحية للجماعات التي كانت تواجه الدعوة الإسلامية الجديدة بالجمود والتمرُّد ،من خلال الوجه الداخلي الذي يختفي وراء غشاءٍ كثيفٍ من المظاهر الخادعة التي يستقرون وراءها من أوضاع ومواقع اجتماعية ومبرراتٍ سطحيةٍ .
ومن خلال هذه الصورة ،نستطيع التعرّف إلى المشاكل المعقّدة التي كانت تحيط بالرسول الداعية في دعوته ،وتحاول أن تهزمه نفسياً بالأساليب النفسية المثيرة .
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} .ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية وجهين ،أحدهما: غيبيّ ،فقد قال الكلبي:في ما نقله عنه صاحب مجمع البيانوهم أبو سفيان والنضر بن الحرث وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب ،حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن ،وكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه وثانيهما: أن فقرة{جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} بمعنى باعدنا بينك وبينهم في القرآن ،فهو لك وللمؤمنين معك شفاء وهدى ،وهو للمشركين في آذانهم وقر وعليهم عمىً ،فهذا هو الحجاب ،وهذا التفسير عن أبي مسلم .
ولكن هذين الوجهين لا ينسجمان مع جو الآية الذي يؤكد على العنصر الذاتي في رفض الإيمان ،هذا مع ملاحظة أن مثل هذه التفسيرات لا ترتكز على قاعدة ،بل تنطلقغالباًمن اجتهاداتٍ ذاتيةٍ ؛فقد يتساءل المتأمّل عن معنى هذا الحجاب بين هؤلاء وبين النبي عند قراءته للقرآن بحيث لا يرونه ،فهل المسألة هي حمايته من أنظارهم أو من الاعتداء عليه ،وهل القضية ذاتية بالنسبة إليه في تلاوته للقرآن ،أم أنها للدعوة وللحوار وللتواصل معهم من أجل أن يهتدوا به ؟!ثم ما الوجه في اختصاص هؤلاء بذلك ،في الوقت الذي كان الكثيرون من قريش ممن يرون رأي هؤلاء ويتصرفون على طريقتهم ؟!
وما الفائدةفي أجواء التفسير الثانيبالتأكيد على المباعدة الإلهية بين القرآن وبين المشركين ليكون عمىً لهم ،بينما هو شفاء للمؤمنين ،وذلك بالتعبير عن المسألة بأنه حجابٌ مستورٌ ؟!
ولعل الأظهرفي معناههو الحجاب النفسي الذي جعله الله من خلال حالتهم الداخلية في رفض الإيمان ومواجهة القرآن بطريقة اللاّمبالاة ،ما يجعلهم لا يدركون مضامينه في العقيدة والشريعة ،ولا يلتزمون مفاهيمه في الكون والحياة ،كأيّة حالةٍ داخليةٍ رافضةٍ في تأثيرها السلبي على وعي الإنسان للمسألة المرفوضة .
أمّا خصوصية عدم إيمانهم بالآخرة ،فقد تكون ناشئةً من كون هذا البعد عن خط الإيمان بالآخرة يمنع الإنسان من مواجهة الأمور مواجهةً فكريةً وعمليّةً مسؤولةً في ما ينبغي أن يؤمن به أو يعمل به ،لأنه لا يجد أية ضرورة ضاغطة في هذا الاتجاه ،فتبقى المسألة خاضعةً للمزاج الذاتي الذي يلتقي بالعوامل الطارئة البعيدة عن عمق الأشياء في نطاق المصلحة المنفتحة على حياة الإنسان .
أمّا توصيف الحجاب بأنه مستورٌ ،مع أن المعنى يلائم التعبير بأنه ساترٌ ،فقد ذكر البعض «أن «مفعول » فيه للنّسب أي حجاباً ذا ستر ،نظير قولهم: رجل مرطوب ،ومكان مهول ،وجارية مغنوجة ،أي ذو رطوبة ،وذو هول ،وذات غنج ،ومنه قوله تعالى:{كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [ مريم:61] أي ذا إتيان » .
«وعن الأخفش أن «مفعول » ربما ورد بمعنى فاعل ،كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم ،كما أن «فاعل » ربما ورد بمعنى مفعول ،كماء دافقٍ أي مدفوق .فمستور بمعنى ساتر » .
ويذكر صاحب الميزان وجهاً آخر ،وهو «أنه حجاب مستور عن الحواس ،على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس ،المعمولة لستر شيء عن شيء ،فهو حجابٌ معنويٌّ مضروبٌ بين النبي ( ص ) بما أنه قارىء للقرآن حاملٌ له ،وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة ،يحجبه عنهم فلا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن ويؤمنوا به » .
ولكن قد يرد عليه أن جوّ الآية يوحي بأن الوصف لتأكيد دور الحجاب في المنع عن الإيمان ،من خلال كونه حائلاً بين الناس وبين النبي ( ص ) في الإيمان بالقرآن ،ما يقرِّب معنى الساتر لا المستور ،ويرجّح أنه وارد على نحو النسبة أو الفاعل ،فقد لا يكون هناك فائدة كبيرة في بيان خفاء الحجاب عن الأعين ،اللهم إلا أن يكون ذلك للإيحاء بالعنصر الداخلي المعنوي للحجاب في مقابل الحجاب الخارجي المادي .