{لاَّ تَفْقَهُونَ}: لا تفهمون .
الكون يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحه
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} «سبحانه » كلمةٌ ومضمونٌ تنطق بها الموجودات كلها ،ممن تملك الوعي والإدراك والنطق ،وممن لا تملكه ،فكل موجود يفصح عن ذلك بمظاهر وجوده وخصائصه الدالة على عظمته وتنزيهه عن كل شريك ،ما يوحي بانفراده بكل عناصر العظمة في ذاته .وهذا ما يستوحيه الإنسان عندما يتطلّع إلى السماوات ،فيجد فيها تلك العوالم الشاسعة الكبيرة المشتملة على أسرار الإبداع ،أو يتطلع إلى الأرض ،فيجد فيها الجبال والصحارى والبحار والأنهار ،والموجودات الكامنة فيها ،والمتحركة على صعيدها أو في أجوائها في ما لا يعرفه الإنسان من الموجودات الخفية ...إنه يحس بوجدانه وبفكره كيف تنطق هذه الأكوان والموجودات بعظمة الله ،فلا يملك إلا أن يخشع أمام العظمة المطلقة اللامتناهية ،ويعترف بأن اللههو وحدهخالق ذلك كله ،ولكنه لا يستطيع أن يدرك عمق هذه التسبيحات الكونية بما تختزنه من أسرار وما تثيره من أفكار ،لأننا لم ندرك من ذلك إلا القليل القليل .
وقد أثار صاحب تفسير الميزان بعض الحديث حول ما إذا كان التسبيح هنا ،في الموجودات الجامدة أو غير الناطقة ،تسبيحاً حالياً ،يتمثّل الإنسان فيه مظاهر العظمة الناطقة بوجودها بتنزيه الله وتعظيمه ،أو تسبيحاً قولياً ،باعتبار أن القول أو الكلام في حقيقته هو «الكشف عما في الضمير بنوعٍ من الإشارة إليه والدلالة عليه ،غير أن الإنسان لما لم يجد إلى إرادة كل ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقاً ،التجأ إلى استعمال الألفاظ ،وهي الأصوات الموضوعة للمعاني ،ودل بها على ما في ضميره ،وجرت على ذلك سنة التفهيم والتفهّم .وربما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما ،وربما استعان على ذلك بكتابة أو نصب علامةٍ .وبالجملة ،فالذي يكشف به عن معنى مقصودٍ ،قولٌ وكلامٌ وقيام الشيء بهذا الكشف قولٌ منه وتكليم ،وإن لم يكن بصوتٍ مقروعٍ ولفظٍ موضوعٍ ،ومن الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام والقول والأمر والوحي ،ونحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد ،وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات ،وقد سمّاه الله سبحانه قولاً وكلاماً .
وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما ما يكشف كشفاً صريحاً عن وحدانية ربها في ربوبيته ،وينزهه تعالى عن كل نقص وشين ،فهي تسبح الله سبحانه » .
ثم يفيض في الحديث عن المسألة ،وينتهي إلى القول في معرض توضيح الفكرة فيقول: «وبلفظ آخر ،إذا لوحظت الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها ،بإبرازها ما عندها من الحاجة والنقص مع ما لها من الشعور بذلك ،كان ذلك تسبيحاً منها ،وإذا لوحظت من جهة كشفها ما لربها ،بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود وسائر جهات الكمال ،فهو حمدٌ منها لربها ،وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال ،مع قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه ،كان ذلك دلالةً منها عليه تعالى وهي آياته .
وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى ،بنفي الشريك ،وجهات النقص ،فإن الخطاب في قوله:{وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إمّا للمشركين ،وإما للناس ،أعم من المؤمن والمشرك ،وهم على أيّ حالٍ يفقهون دلالة الأشياء على صانعها ،مع أن الآية تنفي عنهم الفقه » .
وإننا نتحفظ في ما ذكره من شمول الكلام ،للدلالة على كل ما يكشف عن المقصود حتى لو لم يكن باللفظ ،وذلك لصحة السلب عن غير موارد الدلالة باللفظ ،ولذا يقال للأخرس أنه لا يتكلم ،كما يقال للحيوانات ذلك .وأمّا ما نجده في بعض الإطلاقات ،فإنه واردٌ على سبيل الاستعارة المجازية .
وقد لا نستطيع اعتبار هذا البحث ذا ثمرة عملية ،لأن الجميع ممن يعتبر التسبيح للموجودات وارداً على نحو الحقيقة أو المجاز ،متفقون على طبيعة المضمون التسبيحي الدّالّة على عظمة الله وتنزيهه ،ولكننا أشرنا إليه لما فيه من الطرافة .
وقد ختم القرآن الآية بقوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} للتدليل على أن الله لا يواجه هؤلاء الذين يشركون به ،أو ينفرون من الاستماع إلى آياته ،بالعقاب العاجل ،بل يمهلهم ليراجعوا أفكارهم ،وليتعرّفوا على مواقع الخطأ في مواقفهم ،ليتوبوا ويرجعوا إليه ،فيغفر لهم ذنوبهم ،ويشملهم بعنايته ورحمته ،لأنه الحليم الغفور .