{ تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( 44 )} .
{ تسبح له السموات السبع والأرض} ، أي طبقات النجوم وبروجها ، وكل سماء زينت بمصابيح هي نجومها ، والتسبيح الخضوع له سبحانه وتعالى ، وكونها طائعة له سبحانه فكل الوجود في قبضته ، وإن هذا التسبيح يرشح للتفسير الثاني ؛ لقوله تعالى:{ إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} ، أي الذي يقول:إن المعنى أن آلهتهم خاضعة لله يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة .
والتسبيح هو بمعنى الخضوع الكامل لله تعالى ، لا يخرج شيء مما في الوجود أو أحد عن طاعته سبحانه ، ويصح أن يراد بهذا الخضوع مع ذكر الله تعالى بالتنزيه عن الشريك وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، وإنه يكون خاشعا مسبحا عابدا ، وإن كان غير مكلف كما يكلف العقلاء وإن الحجارة طوع يمينه سبحانه ، ولقد قال تعالى:{. . .وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله . . .( 74 )} [ البقرة] .
وإذا كانت هذه حال الوجود كله من أنه يسبح الله تعالى ، وإن كانا لا ندرك تسبيحه فكان ذلك دليل وجوب عبادته وحده لا يعبد سواه ، وقد استدرك الله تعالى على حكمه سبحانه بتسبيح الوجود بقوله:{ ولكن لا تفقهون تسبيحهم} ، أي لا تنفد بصائركم ومدارككم إلى إدراك تسبيحه ؛ لأنه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( 14 )} [ الملك] سبحانه وتعالى .
ولقد ذكر الزمخشري أن معنى يسبح بحمده أنها تسبح بلسان الحال ، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته ، فكأنها تتعلق بذلك وكأنها تتنزه الله عز وجل مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيره ، ويقول:إن قوله تعالى:{ ولكن لا تفقهون تسبيحهم} خطاب للمشركين من حيث إنهم لم يأخذوا بمقتضى دلالة الحال ، وما توجبه من إيمان بالله وحده .
وفي الحق ، إن الزمخشري أخرج النص من ظاهره إلى مجاز صحيح في ذاته ، ولكنه بعيد من جهة ، ولا ينقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة توجب الخروج ، وإلا بتعذر الحقيقة أو يكون في المجاز جمال لفظي خاص يليق بمقام البيان القرآني ، وقد فند الناصر كلام الزمخشري بقوله:"ولقائل أن يقول فما تصن بقوله تعالى:{ كان حليما غفورا} وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم ، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين{ حليما غفورا} المؤمنين والظاهر أن المخاطب المؤمنون ، وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات ، فكأنه والله أعلم من عدم العمل بمقتضى ذلك ، فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى النملة والبعوضة ، وكل ذرة من ذرات الكون لوجدها تسبح الله تعالى وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره ، وعندي أن قوله تعالى:{ ولكن لا تفقهون تسبيحهم} خطاب لكل من هو أهل للخطاب .
وقوله تعالى:{ إنه كان حليما غفورا} لا يعاجل بالعقوبة ويفتح الغفران لمن يتوب ، ولو كان مشركا يتوب عن شركه ، كما:{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . . .( 38 )} [ الأنفال] ، وأكد سبحانه وصفه بهذين الوصفين ب ( إن ) المؤكدة ، وكان الدالة على الاستمرار ، وصفه التشبيه الدالة على كمال الاتصاف .