{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( 45 ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا ( 46 ) نحن أعلم بما يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 47 ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( 48 )}
المفردات:
الحجاب والحجب: المنع من الوصول إلى الشيء والمراد: الحاجب .والمستور: أي: الساتر ،كما جاء عكسه من نحو .ماء دافق: أي: مدفوق .
أن يفقهوه: لئلا يفقهوه ويفهموه .
أكنة: أغطية واحدة: كنان وهو الغطاء الذي يكن فيه الشيء .والكن: ما يحفظ فيه الشيء ،جمعه: أكنان .يقال: كننت الشيء كنا ،جعلته في كن .
الوقر: الصمم والثقل في الآذان المانع من السماع .
النفور: الانزعاج .
/م45
التفسير:
46 ،45-{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا .وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوّا على أدبارهم نفورا} .
كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن ،ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له ،ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به فجعل الله بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حجابا خفيا ،وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن ،وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه .
وقد روى ابن إسحاق في السيرة: عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري: أنه حدث: أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ،والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ،خرجوا ليلة ؛ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته ،فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه ،وكل لا يعلم بمكان صاحبه ،فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ،حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ،فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض فهائكم ؛لأوقعتم في نفسه شيئا ،ثم انصرفوا ،حتى إذا كانت الليلة الثانية: عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ،فباتوا يستمعون له ،حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق ،فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة ،ثم انصرفوا .حتى إذا كانت الثالثة: أخذ كل رجل مجلسه ،فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ،فجمعتهم الطريق ،فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد: لا نعود ،فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا .فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى سفيان بن حرب في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فينا سمعت من محمد فقال: يا أبا الثعلبة ،والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ،وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها .
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به .قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ،فقال: يا أبا الحكم ،ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟
قال: ماذا سمعت ؟قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛أطعموا فأطعمنا ،وحملوا فحملنا ،وأعطوا فأعطينا .حتى إذا تجاثينا على الركب ،وكنا كفرسي رهان ،قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء ؛فمتى ندرك هذه ؟والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه !قال: فقام عنه الأخنس وتركه .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن قلوبهم فيصدونها ،وتجاذبهم إليه فيمانعونها ،فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب ،فإذا هم لا ينتفعون به ،ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه ،وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن ،ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ،ثم يغلبهم التأثر به فيعودون ،ثم يتناجون من جديد حتى ليتعاهدوا على عدم العودة ؛ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب !ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازا تهم وفي كبريائهم فينفرون منها .
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ،والكبرياء يمنعهم من التسليم والإذعان ،فيطلقون التهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذرون بها عن المكابرة والعناد .