{الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد}:
متشابها: الراجح أن الكلمة هنا بمعنى حسن التساوق والانسجام في نظم القرآن ومحتوياته وأنها غير ما تعنيه جملة{وأخر متشابهات} في آية سورة آل عمران هذه:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ....} .
مثاني: جمع مثنى ،وهي إما أن تكون من التثنية بمعنى التكرار والترديد مرة بعد مرة ،وإما من الثناء .وكلاهما مما يتحمله مفهوم الآية .فالمعنى الأول يعني ما جاء الأسلوب القرآني به من تكرار الوعظ والقصص والأمثال وترديدها .والمعنى الثاني يعني ما احتواه القرآن من صفات الله وأسمائه ومشاهد قدرته وتقرير استحقاقه للثناء والحمد .
في الآية تنويه بالقرآن الكريم وأثره ،فالله قد أنزل على رسوله أحسن الكلام .وقد جاء في حسن التساوق والانسجام والمواعظ الروحانية أساليب الإنذار والتبشير والقصص وصفات الله وأسمائه الحسنى ومشاهد قدرته وعظمته ما من شأنه أن يثير في الذين يؤمنون بالله ويخافون شعور الرهبة والهيبة والخشوع فتقشعر جلودهم لذكر الله ،ثم لا تلبث أن تستشعر بالسكينة والطمأنينة .وهذا من أثر هداية الله التي يوفق الله إليها من يشاء من عباده ،أما من لم يوفقه إليها فلن ينتفع بذلك .
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له: لو حدثتنا فنزلت الآية .ومقتضى الرواية التي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أن الله أنزل الآية ردا عليهم .والرواية في المعنى المتبادر منها محل توقف من دون ريب لأن أصحاب رسول الله الأولين رضوان الله عليهم أجل من أن يظنوا أن حديث رسول الله يضارع حديث الله أو يغني عنه .والشطر الثاني من الآية يدعم ذلك ويفسر مدى شطرها الأول ؛حيث يسوغ القول إنها في صدد التنويه بالمؤمنين الأولين الذين اهتدوا وتأثروا بالقرآن ومواعظه وتساوقه وانسجامه وروحانيته أقوى التأثر .والآية بعد فيما هو المتبادر متصلة بسابقتها ومعقبة عليها .فقد احتوت السابقة تنويها بمن شرح الله صدره للإسلام وتنديدا بقساة القلوب عند ذكر الله ،فجاءت هذه الآية تبين ما هو ذكر الله وما هو أثره في القلوب الصافية السليمة .
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية عن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن ؟قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم ) .حيث ينطوي في الحديث توكيد تطبيقي لأثر القرآن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأولين رضي الله عنهم .
ومعجزة الآية في المؤمنين مستمرة المدى في كل ظرف ومكان ،فلن يسمع القرآن مؤمن يخاف الله ولا يكابر في آية إلا استشعر بروحانيته وخشع قلبه له .ويستوي في هذا العربي الذي يفهم لغة القرآن والأعجمي إذا سمع ترجمة معانيه ترجمة صادقة .
هذا ،وليس من محل للاستشكال في الآية بسبب الإطلاق في عبارة:{ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ( 23 )} فإن الإشكال يزول بآيات عديدة أخرى قرنت فيها هداية الله وإضلاله بأسبابها ونص فيها على أن الله إنما يضل الفاسقين والظالمين أي الذين فسدت أخلاقهم وساءت نياتهم ،وإنما يهدي إليه من أناب أي من رغب في الحق والهدى على ما نبهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة .
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن ابن عباس بن عبد المطلب قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ) .وحديثا آخر جاء فيه: ( إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار ) .حيث ينطوي في الحديثين حث وترغيب للمسلمين في صدد مدى هذه الآية .
هذا ،ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وأثره وأوردنا ما ورد في ذلك من آثار فنكتفي هنا بهذا التنبيه بمناسبة ما احتوته الآيات من أثر ذكر الله في المؤمنين المخلصين .