{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} يشبه بعض أجزائه بعضاً في أسلوبه ووضوح الحق في معانيه وبلاغة التعبير في آياته ،فلا تتنافر أفكاره ،ولا تختلف آفاقه ،فهو على نسق واحد .
{مَّثَانِيَ} جمع مثنى أو مثنية ،قيل: إنه بمعنى المعطوف لانعطاف بعضه على بعض ورجوعه إليها بتبين بعضها ببعض وتفسير بعضها ببعض ،وقيل: إنه عبارة عن المعاني الثنائية ،كالأمر والنهي والوعد والوعيد ،فلا تقف مفاهيمه ولا تتجمد في جانب واحد ،بل تتحرك في الأمثال والأضداد لتحتوي كل مواقع القضايا العامة في الكون والإنسان والحياة ،لتأمر بما يحقق المصلحة ،وتنهى عما يشتمل على مفسدة ،وقيل: إن المراد بالمثاني هنا: إيراد المعنى بأكثر من أسلوب .{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فيعيشون الخوف من العذاب حين يعيشون آيات القرآن التي تتحدث عن عظمة الله ،فيستشعرون الرهبة منه في حالة عصيانه أو التمرد عليه ،ويتفاعل هذا الخوف في الحسّ فيشبه القشعريرة التي تصيب الجلد ،في ما توحي به من الحالة النفسية القلقة أمام تهاويل عذاب الله ،ورهبة الوقوف بين يديه .وتتحول المسألة بعد ذلك إلى فكرٍ يتأمّل ،وروحٍ تنفتح وتنطلق وتطوف في رحاب الحق ،لأن الخوف يثير الشعور بالمسؤولية الذي يخرج الإنسان به عن أجواء اللامبالاة الفكرية .وبذلك يحصل على طمأننية الفكر ،وهدوء الروح الذي جرى التعبير عنه بالطريقة الحسية .
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} عندما يتمثلون عظمة ربوبيته في معنى الإيمان وامتداد قدرته في رحاب الوجود وانفتاح رحمته في ساحات نعمه ،فتخشع نفوسهم ،وتطمئن قلوبهم بذكره ،وتلين أجسادهم لعبادته ،{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ} بفعل ما يفيض به على عباده من الفكر الباحث عن الحق ،ومن الشعور المنفتح على الله ،وما يهيّئه له من أسباب الهدى ،ويضلّ بها من تركها وأهملها ونظر إليها نظرة اللامسؤولية واللاّمبالاة ،عندما تتحول المسألة عنده إلى ما يشبه العبث واللهو واللعب ،بعيداً عن كل معاني الجدّية في الحياة .{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وذلك من خلال ما أوجده من أسباب الضلال التي تلتقي بالمفردات المتناثرة في حركة الواقع وما تحتوي من الشبهات والأضاليل ،وبإرادة الإنسان التي لا تواجه ذلك كله بما وهبه الله من طاقة الفكر والتأمّل .وهذا جارٍ على أسلوب القرآن الذي يربط الأمور كلها بالله ،من خلال خلق الأسباب ،مع كون الإنسان جزءاً من هذه الأسباب في إرادته الحرة .ولعل ذكر الكتاب المنزل أمام مسألة الهداية ،يوحي بأنها تنطلق من العناصر الاختيارية التي تثير في داخل الإنسان المعاني الروحية التي تفتح عقله وقلبه على الهداية ،لأن علاقة الكتاب بها تتصل بالفكر الذي يهدي إلى الحق ،والشعور الذي يتفاعل به .