{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ ( 1 ) مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 19 )} ( 19 ) .
( 1 ) أن تقولوا: لئلا تقولوا .
تعليق على الآية:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ......................} الخ
عبارة الآية واضحة كذلك .وفيها دعوة إلى توجيه الخطاب إلى أهل الكتاب مع تعليل جديد .فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم على فترة وانقطاع من مجيء الرسل ليجدد عهد الله ويبين لهم حدوده .ويدعوهم إلى السير في نطاق ذلك ،حتى لا يبقى لهم حجة في البقاء على ما هم فيه من انحراف وشذوذ وانقسام .وحتى لا يقولوا: إنه لم يأتهم بشير ونذير يبين لهم ما هم عليه من خطأ وضلال .
والجملة الأخيرة في مقامها ذات مفهوم جديد .فالله قدير على كل شيء .ولا يحد قدرته شيء .وهو الذي أرسل الأولين الذين يعترفون بهم .وليس بدعا على قدرته أن يرسل رسولا من جديد .
ولقد روى الطبري أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا لليهود: اتقوا الله ،فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته .فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا ،وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده ،فأنزل الله الآية .
ويلحظ أن الآية موجهة إلى أهل الكتاب مثل الآية ( 15 ) المقاربة لها في الصيغة ؛حيث يتبادر أكثر أن تكون استمرارا في السياق الاستطرادي وجزءا منه .وهذا لا يمنع أن يكون الجماعة المذكورون في الرواية قد قالوا لجماعة اليهود ما قالوا ،وأن جماعة اليهود قد ردوا عليهم بما ردوا في موقف ما .
وأسلوب الآية قوي في صدد الدعوة المحمدية وتوجيهها إلى أهل الكتاب .وفيه صراحة تدعم صراحة الآية ( 15 ) في شمول الدعوة لأهل الكتاب فضلا عن غيرهم .
وعلى ضوء ما جاء في الآيتين ( 15- 16 ) يصح القول: إنهما في صدد تقرير أن حكمة الله تعالى قد اقتضت إرسال محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد فترة انقطاع الرسل بالنور والكتاب المبين ليبين للناس وبخاصة لأهل الكتاب حدود الله ويحل مشاكلهم ويصحح انحرافاتهم ويستجيب إلى حاجاتهم ويجمعهم جميعا تحت لواء الدين الحق الذي أرسله الله به .
والآية قد جمعت تعابير ( الرسول ) و ( البشير ) و ( النذير ) معا على معنى أن مهمة الرسول هي التبشير والإنذار .وفي هذا رد على ما قاله بعض المستشرقين اعتباطا من أن القرآن كان يفرق بين معاني النذير والرسول ،وأنه مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فترة كان يتحاشى فيها أن يقول بأنه رسول ويكتفي بالقول إنه نذير ومنذر ،مع أن هذا غير صحيح أيضا ؛لأن القرآن وصف النبي بالرسول منذ وقت مبكر في مكة ،وفي أوائل ما نزل من السور ( الآية 15 من سورة المزمل ) ثم تكرر وصفه بالرسالة في آيات كثيرة أخرى مكية ،ولأن في القرآن المكي آيات كثيرة تفيد أن التبشير والإنذار هما مهمة الرسول .
هذا ،والسلسلة التي تبتدئ بالآية ( 12 ) مصبوبة كلها على كون مفهوم ( أهل الكتاب ) هم اليهود والنصارى .وفي هذا تدعيم لما قلناه في آخر تفسير الآية ( 5 ) .
ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الرسول البشير النذير الذي هو خاتم النبيين كما جاء في الآية ( 40 ) من سورة الأحزاب .وأن يكون هذا الدين هو جماع الهدى والحق ليكون دين الإنسانية جميعا ويظهر على الدين كله كما جاء في آية سورة الفتح ( 28 ) والصف ( 9 ) فشاءت حكمته تبعا لذلك أن يكون كاملا تاما مستجيبا لكل حاجات البشر وحالا لكل مشاكلهم على اختلاف مستوياتها وأنواعها كما جاء في الآية الثالثة من هذه السورة وآيات سورة النحل ( 89 ) والأنعام ( 37 ) والأعراف ( 157 ) .وكان في ذلك كله أعظم شرف للجنس العربي في دور عروبته الصريحة ؛لأنه منه وكتابه بلغته .وقد حمل بذلك أعظم وأشرف رسالة ومسؤولية إنسانية خالدة .ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ،إلا موضع لبنة من زاوية ،فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) ( 1 ){[806]}ولقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) ( 2 ){[807]} .
وهذا الحديث يساق في سياق الآيات التي نحن في صددها التي تهتف بأهل الكتاب الذين يستفاد من السياق السابق أن المقصود بهم اليهود والنصارى ،وأنه قد جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا وبشيرا على فترة من الرسل لئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير وينبغي أن لا يكون هذا الحديث والحالة هذه حاجبا للحقيقة القرآنية المقررة في آيات كثيرة بأن مصير غيرهم من جميع النحل والملل والفئات الذين يسمعون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يؤمنون به هو نفس المصير .