يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى:إنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين ، الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ; ولهذا قال:( على فترة من الرسل ) أي:بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم .
وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة ، كم هي ؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة - في رواية عنه -:كانت ستمائة سنة . ورواه البخاري عن سلمان الفارسي . وعن قتادة:خمسمائة وستون سنة ، وقال معمر عن بعض أصحابه:خمسمائة وأربعون سنة . وقال:الضحاك:أربعمائة وبضع وثلاثون سنة .
وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال:ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة .
والمشهور هو الأول ، وهو أنه ستمائة سنة . ومنهم من يقول:ستمائة وعشرون سنة . ولا منافاة بينهما ، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية ، والآخر أراد قمرية ، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين ; ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف:( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) [ الكهف:25] أي:قمرية ، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب . وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم ، آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد [ صلى الله عليه وسلم] خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أولى الناس بابن مريم لأنه لا نبي بيني وبينه هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [ عليه السلام] نبي ، يقال له:خالد بن سنان كما حكاه القضاعي وغيره .
والمقصود أن الله [ تعالى] بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وتغير الأديان ، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم ، والحاجة إليه أمر عمم ، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد ، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد ، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين ، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين ، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته:"وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا:كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ، عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عجمهم وعربهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب وقال:إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان ، ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت:يا رب ، إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ، فقال:استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك ، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأهل الجنة ثلاثة:ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير متصدق ، وأهل النار خمسة:الضعيف الذي لا زبر له ، الذين هم فيكم تبعا أو تبعاء - شك يحيى - لا يبتغون أهلا ولا مالا ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك "، وذكر البخيل أو الكذب ، "والشنظير:الفاحش ".
ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه ، عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير . وفي رواية سعيد عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف . وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده:أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة ، عنه . ثم رواه هو عن روح عن عوف عن حكيم الأثرم عن الحسن قال:حدثني مطرف عن عياض بن حمار فذكره . و [ كذا] رواه النسائي من حديث غندر عن عوف الأعرابي به .
والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله:"وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل ". وفي لفظ مسلم:"من أهل الكتاب ". وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهدى الخلائق ، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ، وتركهم على المحجة البيضاء ، والشريعة الغراء ; ولهذا قال تعالى:( أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ) أي:لئلا تحتجوا وتقولوا -:يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه - ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، فقد جاءكم بشير ونذير ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ( والله على كل شيء قدير )
قال ابن جرير:معناه:إني قادر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني .