{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( 151 ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ( 152 ) وأن هذا صراطي مستقيما( 1 ) فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( 2 ) ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( 153 )} [ 151 – 153] .
الآيات واضحة العبارة ،والمتبادر أنها متصلة بمواقف المناظرة والمحاججة الذي حكته الآيات السابقة لها وتعقيب عليها .وأنها موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين الذين هم الطرف الثاني في المناظرة .
تعليق على آية
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}
والآيتين التاليتين لها
ومع ما في توجيه الخطاب في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية فإنها في حد ذاتها من جوامع الآيات القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية العامة التي يمكن توجيهها لجميع الناس ولجميع المسلمين في كل زمن ومكان .
ولقد تكرر في القرآن هذا النوع من الجوامع ،وقد مرت اثنتان غير هذه ،واحدة في سورة الفرقان وأخرى في سورة الإسراء .ويلحظ أن كلا من المجموعات الثلاث جاء بأسلوب خاص .مجموعة الفرقان جاءت وصفا لأخلاق وسيرة عباد الله المخلصين المؤمنين ومجموعة الإسراء جاءت كوصايا ربانية مباشرة .وهذه المجموعة جاءت كبيان موجه إلى السامعين بما حرم الله وأمر في سياق مناظرة قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين مما فيه صور من النظم القرآني وتنوعه .وهذه المجموعة أكثر تشابها وتساوقا مع مجموعة الإسراء ،وقد علقنا على هذه المجموعة بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الإسراء ،وجل ما قلناه ينسحب على هذه المجموعة فلا نرى حاجة إلى تكراره ،غير أن في هذه المجموعة مبدأين لم يردا في تلك .
أولهما: النهي عن محاباة ذوي القربى ،وقول الحق والعدل دون غيرهما .
وثانيهما: إيجاب التزام سبيل الله الواضح الواحد الذي لا يتعدد وعدم التفرق مذاهب وشيعا .
والمبدأ الأول ينطوي على وجوب التزام المرء الحق والعدل والإنصاف في كل ظرف ،وتجاه أي مؤثر داخلي وخارجي .وفي هذا من السمو والقوة ما هو ظاهر ولاسيما إن عصبية القرابة من الأمور الراسخة في النفوس .
أما المبدأ الثاني: فهو مزدوج المدى من حيث إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين تعقيبا على المناظرة وينطوي في ذلك تنبيه إلى أن سبيل الله واحدة لا تعدد فيها وواضحة لا عماء فيها وأن على المشركين الذين يعترفون بالله ويتحججون بمشيئته في ما هم عليه من تقاليد أن يلتزموا هذه السبيل ويدعوا المراوغة والأهواء التي تبعدهم عنها إذا كانوا حقا راغبين في الهدى ودين الله .ومن حيث شمول الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان .
والمتبادر أنه ينطوي في هذا بالنسبة للمسلمين تقرير كون سبيل الله واحدة وواضحة فيما يقرره القرآن والرسول من المبادئ المحكمة وإيجاب التزام ذلك وعدم الحيدان عنه ؛لأن في هذا الضلال عن سبيل الله .
وخواتم الآيات الثلاث جديرة بالتنويه من حيت انطواؤها على التنبيه إلى أن هذه الآيات المتضمنة لوصايا الله وبيان ما حرمه إنما تتلى على الناس ليتدبروها ويعقلوها ويتفكروا بواجباتهم فيما يفعلون ،وليراقبوا الله ويتقوه في أعمالهم .ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه السلسلة أحاديث عديدة منها ما أورده في صدد المجموعة جملة ،ومنها ما أورده في صدد مفرداتها .
فما أورده في صدد المجموعة جملة حديث رواه الحاكم في مسنده عن عبادة بن الصامت قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيكم يبايعني على ثلاث ؟ثم تلا الآيات ،ثم قال: فمن وفى فأجره على الله ،ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ،ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ) ،حيث ينطوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هذه المجموعة جامعة لأمهات الأمور .ومن ذلك حديث أخرجه الأودي عن ابن مسعود قال: ( من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات ) .وحديث رواه الحاكم عن ابن عباس قال: ( في الأنعام آيات هن أم الكتاب ،وقرأ هذه الآيات ) .
ولقد أوردنا بعض ما أورده في المفردات في سياق سلسلة الإسراء ونورد بعض ما لم نورده .فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة ) قلت: ( الكلام لأبي ذر ) وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق وكرر السؤال فكرر النبي الجواب ،وفي الرابعة قال: على رغم أنف أبي ذر ){[942]} .
ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أحد أغير من الله .من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) .ومن ذلك حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب الكيل والميزان إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم ) .ومن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: ( خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده ،ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما ،وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ{هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [ 153] .
هذا ،ويلفت النظر إلى قيد قتل الأولاد خشية الإملاق ؛حيث يجعل هذا القيد الفرق واضحا بين هذا العمل وقتل الأولاد المذكور في الآية [ 137] من هذه السورة من حيث إن ما ذكر في الآية [ 137] كان تقليدا دينيا على ما شرحناه في مناسبتها في حين أن ما ذكر في الآية [ 151] التي نحن في صددها عمل ناتج عن أسباب اقتصادية .
هذا والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات الثلاث مدنية ،ولم نر ما يؤيد ذلك في كتب أخرى .ويلحظ أن الانسجام قوي بينهما وبين الآيات السابقة لها حتى لتكاد تكون جزءاغير قابل للانفصال عن المناظرة القائمة في صدد التحليل والتحريم .وأسلوبها أكثر انطباقا على أسلوب الآيات المكية من حيث هو أسلوب حث وتشويق ووصية .وأكثر من واحد من المفسرين{[943]} قالوا: إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين ؛ولهذا فإننا نتوقف في هذه الرواية .
ولعل الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت وأوردناه قبل قليل أوهم بعض الرواة أنها نزلت في المدينة ولم يتنبه إلى الصلة الشديدة بينهما وبين الآيات السابقة .والله أعلم .
تعليق على جملة
{لا نكلف نفسا إلا وسعها}
ومما يحسن لفت النظر إليه بخاصة تعبير{لا نكلف نفسا إلا وسعها} في صدد توفية الوزن والكيل حيث يكون من المألوف شيء من النقص والزيادة فيهما لا يمكن تجنبه .والتعبير يلهم تقرير كون المرء إنما يؤخذ إذا تعمد الغش .أما إذا انتفت نية ذلك فلا محل للتشديد إلى درجة الوسواس .ويكفي المرء أن يبذل جهده .ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: ( قال رسول الله: من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ ) .والحديث لم يرد في الصحاح ،ولكنه متساوق مع روح الآية والمبدأ بإطلاقه أي{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} البقرة: [ 286] من المبادئ القرآنية المحكمة ،وقد ورد مثل هذا التعبير في الآية [ 42] من سورة الأعراف وعلقنا عليه بما فيه الكفاية .