قوله تعالى:{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسنا ولا تقتلوا أولدكم من إملق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصكم به لعلكم تعقلون ( 151 ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون ( 152 ) وأن هذا صرطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصكم به لعلكم تتقون} .
ما اسم موصول في محل نصب مفعول لقوله:{أتل} ولا ،في قوله:{ألا} زائدة .وتقديره: حرم عليكم أن تشركوا .ويجوز أن تكون ما استفهامية .فهي بذلك في محل نصب بالفعل{حرم} وتقدير ذلك: أي شيء حرم ربكم ؟.
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس للإقبال عليه لكي يبين لهم شرع الله فيما حرمه عليهم .يأمره أن يقول لهم: تعالوا إلي أيها القوم أقرأ عليكم ما حرم ربكم عليكم .وما أقوله لكم لهو الحق اليقين الذي أبينه لكم وليس تخريصا كتخريصكم .وكذلك يكون واجب العلماء وهو أن يدعوا الناس إلى دين الله ومنهجه الحق فيبينوا لهم الحق الذي تتضمنه شريعة الإسلام ،ويحذروهم من الباطل بكل صوره وأشكاله ويحذروهم كذلك من الوقوع في المحرمات والفسق كما بينته الآية هنا .
قوله:{ألا تشركوا به شيئا} ألا تشركوا ،في محل نصب بدل من{ما} أي أتل عليكم تحريم الإشراك .وشيئا ،يحتمل المفعولية .أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء .ويحتمل المصدرية .أي لا تشركوا به شيئا من الإشراك .وقد بدأ الله بالنهي عن الشرك ،فهو أكبر الكبائر وأفظع المعاصي .لا جرم أن الشرك فادحة شنيعة تدنو دونها كل الموبقات والفوادح فإنه لا يشرك بالله ظالم أثيم قد تردى في هاوية الخاسرين اليائسين .ويستوي في الشرك كل صوره وألوانه من الأوثان الخسران والآلهة المزيفة ،ما بين حجر أصم ،أو كوكب دائر في فلكه يسبح بحمد الله على الدوام ،أو شبحا من الأشباح الموهومة ،أو طاغوتا من طواغيت البشر يدين له المغفلون السفهاء بالطاعة المطلقة والولاء الكامل من غير روية ولا نظر ،إلا العماية والخور ،أو السفاهة والضلالة وانعدام البصر .
قوله:{وبالولدين إحسنا} إحسانا منصوب على المصدر ،لفعل مضمر من لفظه .أي أحسنوا بالوالدين إحسانا .والإحسان إلى الوالدين يعني البر بهما وامتثال أوامرهما وبذل الخير والنصح لهما ،وكامل التواضع واللين في مخاطبتهما ودفع الأضرار والشرور عنهما .
قوله:{ولا تقتلوا أولدكم من إملق نحن نرزقكم وإياهم} بعد أن بين الله حق الوالدين على الأولاد ،ذكر عقيب ذلك حق الأولاد على الوالدين فنهى عن قتلهم خوفا من الفقر مثلما كان الجاهليون يفعلون بالذكور والإناث على السواء .إذ كانوا يقتلون خوفا من الفقر ويئدون البنات خشية العار .لا جرم أن ذلك مربع الشناعة وبالغ الفداحة والنكر .فإنه لا يجترئ على قتل النفس البريئة إلا مقبوح ظلوم ،أو عات وعتل وغشوم .ما ينبغي لعاقل ذي قلب وكينونة بشرية سوية أن يجترئ على قتل ولده خشية الفقر .فإن الله جلت قدرته لهو القمين برزق الوالدين ومن يعولونهم من الأولاد .فليس من مدعاة بعد ذلك للخوف من الفقر على الأسرة والأولاد ما دام الله عز وجل متكفلا بالرزق .
قوله:{ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الفواحش جمع فاحشة ،وهي الزنا وكل ما يشتد قبحه من الذنوب وكل ما نهى الله عنه والفحش ككل شيء جاوز حده ،والفاحش ما جاوز الحد{[1313]} .
على أن تأويل الفواحش ما ظهر منها وما بطن موضع خلاف .فقد قيل: المراد بما ظهر منها زواني الحوانيت ،وأما ما بطن فما خفي .وقد كان أهل الجاهلية يستسرون بالزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرا فحرم الله السر منه والعلانية .فما ظهر منها يعني العلانية ،وما بطن يعني السر .وقد ذكر مثل ذلك عن ابن عباس ،إذ قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية .
وقيل: الأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين بل يجري على عمومه في جميع الفواحش والمعاصي ظاهرها وباطنها ،لأن اللفظ عام يتناول بعمومه سائر المعاصي والمناهي .
قوله:{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} ذلك نهي من الله عن قتل النفس التي حرم الله قتلها لعصمتها بالإسلام أو بالعهد كالذمي والمستأمن ،{إلا بالحق} وهو ما يوجب قتلها .أي لا تقتلوا النفس المعصومة بالإسلام أو الذمة أو العهد في حال من الأحوال إلا في حال الحق .أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق .وهو ما يوضحه الحديث .فقد جاء في الصحيحين وكتب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ،فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله "وهذا الحق عدة أمور نعرض لها في الأخبار التالية .فقد روى الشيخان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني ،والنفس بالنفس ،والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم ،ورجل قتل متعمدا فيقتل ،ورجل يخرج من الإسلام وحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض ".
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه ،أو زنا بعد إحصانه ،أو قتل نفسا بغير نفس "فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ،ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ،ولا قتلت نفسا ،فبم تقتلوني .
إلى غير ذلك من الأسباب الموجبة لقتل المسلم .أما غير المسلم وهو الذمي أو المعاهد .ويراد بالمعاهد ،المستأمن من أهل الحرب الذي يدخل دار الإسلام بعقد الأمان من قبل دولة الإسلام .وقد جاء في قتل الذمي والمعاهد ظلما أشد الزجر والتهديد من الله بما يتوعد القاتلين ظلما الحرمان والخسران في الآخرة .فقد روى ابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال:"من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر{[1314]} بذمة الله فلا يُرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا ".
وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من قتل معاهدا في غير كنهه{[1315]} حرم الله عليه الجنة ".
قوله:{ذلكم وصكم به لعلكم تعقلون} الإشارة عائدة إلى المنهيات المذكورة .فقد وصاكم الله بوجوب المحافظة على ما كلفتم به وهو اجتناب المنهيات لعلكم بعقولكم تكونون من الراشدين .ومن المعلوم أن كمال العقل هو الرشد .