{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( 19 )} [ 19] .
في الآية أوامر ربانية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمره بأن يسأل عمن هو أعظم شهادة ،وأن يقرر أنه هو الله تعالى ،وأن يعلن أنه يجعل الله شهيدا بينه وبين الذين يتجادل معهم على أن الله هو الذي أوحى إليه بالقرآن لينذر به الناس السامعين ومن يبلغه خير هذا الإنذار من الغائبين ،وبأن يعلن إذا أصر المشركون على إشراك آلهة أخرى مع الله أنه بريء مما يشركون ،وأنه لا يشهد إلا بأن الله واحد لا شريك له .
وقد روى البغوي والطبرسي أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اذكر لنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ،فإننا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فنزلت الآية ردا عليهم .
وروى الطبري أن بعض أشخاص من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: ما تعلم مع الله إلها غيره ،فقال: لا إله إلا الله .بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو ،فأنزل الله هذه الآية مع التي بعدها .ورواية الطبري تقتضي أن تكون الآية مدنية .وليس هناك رواية بذلك باستثناء الآية [ 20] على ما ذكرناه في مقدمة السورة .وفحوى الآية أنها في صدد جدال مع المشركين .وفي الآية تأييد دعوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعقل أن تكون نزلت للرد على اليهود الذين آذنت أنهم يعرفون حقيقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم بصفتهم{الذين أتيناهم الكتاب} البقرة: [ 146] وهذا وذاك يسوغ الشك في رواية الطبري ،أما الرواية الأولى فإن شطرها الثاني مناقض للآية [ 20] كما هو واضح .
والذي يتبادر لنا من أسلوب الآية أنها استمرار في السياق ،وأن ضمير الجمع المخاطب الذي يعود إلى الكفار على الأرجح يربط بينهما وبين موقف الجدل الوجاهي الذي حكته الآيات السابقة ،ثم أخذت ترد عليه ردا بعد رد منددة ومنذرة ومقرعة ومذكرة .
تعليق على الآية
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً}… الخ
وأسلوب الآية نافذ إلى الأعماق في صدد الدعوة إلى الله وحده .والجملة على مظهر من مظاهر الشرك ،ثم في جعل الله شهيدا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول إلا الحق ولا يبلغ إلا الصدق .وأن القرآن هو من وحي الله وجملة{وَمَن بَلَغَ} تتضمن عموم الدعوة المحمدية وخلودها وشمولها لكل ظرف ومكان وجنس ونحلة كما هو المتبادر .
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية وردت صيغ مقاربة لها في كتب الصحاح .منها حديث رواه الشيخان عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ){[904]} .وحديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( بلغوا عني ولو آية ){[905]} .وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع ){[906]} .
وينطوي في الأحاديث إيجاب نبوي صريح على كل مسلم في كل زمن ومكان تبليغ شيء مما يعرف من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأي كان لا يعرف ذلك .سواء أكان مسلما أم غير مسلم ،فكأنما حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا ما أمر به في الآية من إنذار السامعين بالقرآن ومن يبلغه خبره من غيرهم على المسلمين استمرارا لتحقيق أمر الله تعالى له .وهذا يعنى واجب الدعوة إلى الإسلام على كل مسلم في كل زمن ومكان .والمتبادر أن هذا الواجب أشد إيجابا على القادرين عليه علما وسلطانا واستطاعة .وبالدرجة الأولى على أولياء أمر المسلمين الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين والإسلام .فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله مبشرا وداعيا ونذيرا لجميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ونحلهم ،وأمر المسلمين أن يجعلوه أسوة وأن يستمروا على نهجه ولا ينقلبوا على أعقابهم بعده كما جاء في آية سورة آل عمران هذه:{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [ 144] كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [ 21] فصار واجب التبليغ والدعوة واجبا لازما على كل مسلم وكل بحسب قدرته واستطاعته .مع شرط مهم هو أن يكون الصدق والإخلاص رائدهم في كل ما يبلغونه ،وأن يتحروا في ذلك أشد التحري وأن لا يكون فيه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه حيث جاء في حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو: ( ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ){[907]} .وفي القرآن آيات عديدة فيها إنذار رهيب لمن يكذب على الله تعالى منها آية سورة الأعراف [ 27] التي سبق تفسيرها ومنها آية الزمر هذه:{فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( 32 )} .