[ 19]{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيدبيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ( 29 )} .
{ قل أي شيء أكبر شهادة} أي بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه{ قل الله} / أي:أكبر شهادة ،إذ لا احتمال لطرو الكذب في خبره أصلا ،جل شأنه .وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه ،إما للإيذان بعينه ،وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره ،أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه ،لا لترددهم في أنه تعالى أكبر من كل شيء ،بل في كونه شهيدا في هذا الشأن .
وقوله تعالى:{ شهيد بيني وبينكم} خبر لمحذوف ،أو خبر عن لفظ الجلالة .ودل على جواب{ أي} من طريق المعنى ،لأنه إذا كان تعالى هو الشهيد بينه وبينهم ،كان أكبر شيء شهادة ،شهيدا له .فيكون من الأسلوب الحكيم ،لأنه عدل عن الجواب المتبادر- إليه ،ليدل على أن أكبر شيء شهادة شهيد للرسول ،فإن الله أكبر شيء شهادة ،والله شهيد له ،فينتج الأكبر شهادة شهيد له .والقياس المذكور من الشكل الثالث ،لأن الحد الأوسط موضوع في المقدمتين ،لا من الثاني ،كما وقع للشهاب في ( العناية ) وهو من بديهيات الميزان .
قال بعضهم:الغرض من السؤال ب{ أي شيء أكبر شهادة} أن شاهدي أكبر شهادة .فقوله{ شهيد ...} الخ تنصيص له ،والسؤال المذكور لا يحتاج إلى جواب ،لكونه معلوما بينا عند الخصم ،فحاصله أن الله هو أكبر شهادة ،شهيد بذلك .انتهى .
ومعنى{ شهيد} مبالغ في الشهادة على نبوتي ،بحيث يقطع النزاع بيني وبينكم ،إذ شهد سبحانه بالقول في الكتب التي أنزلها على الأولين ،وبالفعل فيما ظهر على يدي من المعجزات ،لا سيما معجزة القرآن ،كما قال تعالى:
{ وأوحي إلي هذا القرآن} أي:الجامع للعلوم التي يحتاج إليها في المعارف والشرائع ،في ألفاظ يسيرة ،في أقصى مراتب الحسن والبلاغة ،معجزة شاهدة بصحة رسالتي .لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء ،وقد عجزتم عن معارضته{ لأنذركم به} ،أي بما فيه من الوعيد ،{ ومن بلغ} عطف على ضمير المخاطبين .أي:لأنذركم به ،يا أهل مكة! وسائر من بلغه/ من الناس كافة ،فهو نذير لكل من بلغه ،كقوله تعالى:{ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده}{[3382]} .
{ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} تقرير لهم مع إنكار واستبعاد .
{ قل لا أشهد} بما تشهدون ،{ قل إنما هو إله واحد} أي:بل أشهد أن لا إله إلا هو ،لا يشارك في إلهيته ،ولا في صفات كماله:{ وإنني بريء مما تشركون} يعني:الأصنام .
وفي هذه الآية:
مسائل:
الأولى ؛ استدل الجمهور بقوله تعالى:{ قل الله} في جواب{ أي شيء أكبر شهادة} على جواز إطلاق ( الشيء ) عليه تعالى .وكذا بقوله سبحانه وتعالى:{ كل شيء هالك إلا وجهه}{[3383]} ،فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه ،وذلك لأن الشيء أعم العام- كما قال سيبويه- لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه .واختار الزمخشري شموله حتى للمستحيل .وصرح كثير من المحققين بأنه يختص بالموجود ؛ وضعفوا من أطلقه على المعدوم ،بأنه محجوب بعدم استعمال العرب ذلك ،كما علم باستقراء كلامهم ،وبنحو:{ كل شيء هالك/ إلا وجهه} ،إذ المعدوم لا يتصف بالهلاك ،وبنحو:{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده}{[3384]} .إذ المعدوم لا يتصور منه التسبيح .
قال الناصر في ( الانتصاف ):هذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما ،وأما هذا البحث فلغوي ،والتحاكم فيه لأهل اللغة .وظاهر قولهم:غضبت من لا شيء .و
* إذا رأى غير شيء ظنه رجلا{[3385]} *
- أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود ،إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم ،عدما كان أو وجودا ،أو ممكنا أو مستحيلا ،لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء ،والأمر في ذلك قريب . انتهى .
/ هذا ،وتمسك من منع إطلاقه عليه تعالى بقوله تعالى:{ ولله الأسماء الحسنى فادعوا بها}{[3386]} .والاسم إنما يحسن لحسن مسماه ،وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ،ونعت من نعوت الجلال .ولفظ ( الشيء ) أعم الأشياء ،فيكون مسماه حاصلا في أحسن الأشياء وفي أرذلها .ومتى كان كذلك ،لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ،فوجب أن لا يجوز دعوة الله بهذا الاسم ،لأنه ليس من الأسماء الحسنى ،وقد أمر تعالى بأن يدعى بها .وأجيب:بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى ،لكونها توقيفية ،وكونه لا يدعى به لعدم وروده- لا ينافي شموله للذات العلية ،شمول العام .والمراد بإطلاقه عليه تعالى ( فيما تقدم ) شموله ،لا تسميته به .وبالجملة ،فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى ،أن لا يشمل الذات المقدسة شمولا كليا ،كيف ؟ وهو الموضوعات العامة .والتحاكم للغويين في ذلك- كما قدمنا- .
الثانية- ما أسلفناه من أن المعني بالشهادة هو شهادته تعالى في ثبوت النبوة له صلى الله عليه وسلم ،هو الذي جنح إليه الأكثر .وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهدا على نبوته .فقيل لهم:أكبر شيء شهادة هو الله تعالى ،وقد شهد لي بالنبوة ،لأنه أوحى إلي هذا القرآن ،وتحداكم بمعارضته ،فعجزتم ،وأنتم في مقام البلاغة .وإذ كان معجزا ،كان إظهاره تعالى إياه على وفق دعواي ،شهادة منه على صدقي في النبوة .
ولبعضهم وجه آخر ،وهو ،المعني ،شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته ،وتنزهه عن الأنداد والأشباه .ويرشحه تتمة الآية ،وهو قوله:{ أئنكم لتشهدون ...} الخ وقوله:{ شهد الله أنه لا إله إلا هو ...}{[3387]} ،وقوله:{ فإن شهدوا فلا تشهد/ معهم}{[3388]} ،مما يدل على أن الشهادة إنما عني بها ،في موارد التنزيل ،ثبوت الوحدانية .والقرآن يفسر بعضه بعضا- والله أعلم- .
الثالثة- إنما اقتصر على الإنذار في قوله:{ لأنذركم به} لكون الخطاب مع كفار مكة ،وليس فيهم من يبشر .أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد{ سرابيل تقيكم الحر}{[3389]} .
الرابعة- استدل بقوله تعالى:{ لأنذركم به ومن بلغ} على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة ،وإلى الجن .
الخامسة- استدل به أيضا على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ،ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة ،خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل- عند الحنابلة- وبالإجماع عندنا في غير الموجودين ،وفي غير المكلفين يومئذ- أفاده أبو السعود- .
السادسة- روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله{ ومن بلغ}: "من بلغه القرآن ،فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه ".ورواه ابن جرير{[3390]} عنه بلفظ: "من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم ".
/ وروى{[3391]}عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عن الله ،فمن بلغته آية من كتاب الله ،فقد بلغه أمر الله ".
وقال الربيع بن أنس: "حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأن ينذر بالذي أنذر ".
السابعة- دل قوله تعالى:{ قل إنما هو إله واحد} وقوله:{ وإنني بريء مما تشركون} على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان ،وأبلغ وجوه التأكيد .لأن ( إنما ) تفيد الحصر ،و ( الواحد ) صريح في نفي الشركاء .ثم صرح بالبراءة عن إثبات الشركاء .وقد استحب الشافعي لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين ،أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ،لقوله:{ وإنني بريء مما تشركون} عقب التصريح بالتوحيد .