/م12
ثم ختم الله تعالى هذه الأقوال أو الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين ودلائله بشهادته لرسوله وشهادة رسوله له فقال:{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم}
أخرج ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال:جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو [ من اليهود] فقالوا:يا محمد ما نعلم مع الله إلها غيره .فقال:« لا إله إلا الله ، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو » فأنزل الله في قولهم{ قل أي شيء أكبر شهادة} الآية – كذا في لباب النقول:وهذا الرواية لا تصح ففي سندها محمد بن محمد مولى زيد بن ثابت .قال الحافظ في تهذيب التهذيب:مدني مجهول تفرد عنه ابن إسحاق اه .وابن جرير رواه من طريق ابن إسحاق والتحقيق أن السورة نزلت بمكة دفعة واحدة إلا ما استثني منها ولم يصح أن هذه الآية منه كما علمت مما كتبناه في مقدمة تفسير السورة .
أما معنى الآية فهو أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل كفار قريش:أي شيء شهادته أكبر شهادة وأعظمها وأجدر بأن تكون أصلحها وأصدقها ؟ ثم أمره بأن يجيب هو عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله تعالى وهو شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبي فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه ، وأنذر من بلغه هذا القرآن في كل مكان وكل زمان ؛ إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى إتباعه حتى تقوم الساعة .
شهادة الشيء حضوره ومشاهدته ، والشهادة به الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة أي العقل والوجدان ومنه الشهادة بالتوحيد ، وإثبات الشيء بالدليل والبرهان شهادة به ، وشهادة الله بين الرسول وبين قومه قسمان:شهادته سبحانه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادته بما جاء به .وشهادته عز وجل برسالة رسوله ثلاثة أنواع ( أحدها ) إخباره بها في كتابه بمثل قوله:{ محمد رسول الله} [ الفتح:29]{ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا} [ فاطر:24]{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [ سبأ:28]{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [ الأنبياء:107]{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} [ البقرة:252]{ يس ، والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} [ يس:1-3] .
فهذه شهادات وردت بغير لفظ الشهادة وهو غير شرط في صحتها خلافا لبعض الفقهاء ، ولا يقتضي التلفظ به حقيتها فقد حكى الله عن إخوة يوسف أنهم{ قالوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا} [ يوسف:81] وهم لم يقولوا:نشهد إن ابنك سرق .وقد سموا قولهم شهادة لأنه عن علم بما ثبت عليه عند عزيز مصر ، وإن كان ذلك الإثبات مصنوعا .وقال تعالى:{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [ المنافقون:1] فإنهم صرحوا بلفظ الشهادة ولما كانوا غير مؤمنين بها شهد الله تعالى بكذبهم فيها .وقال تعالى:{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} [ النساء:166] فهذه شهادة صرح فيها باللفظ ، وكذلك قوله تعالى:{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا ، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} [ الرعد:43] وهي بمعنى هذه الآية التي نفسرها .
النوع الثاني من شهادة الله تعالى لرسوله:تأييده بالآيات الكثيرة وأعظمها القرآن- وهو الآية العلمية العقلية الدائمة بما ثبت بالفعل عن عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله .وبما اشتمل عليه من الآيات الكثيرة كأخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصره تعالى لهم وإظهارهم على أعدائهم وغير ذلك مما ثبت بالفعل عند أهل عصره ونقل إلينا بالتواتر .ومنها غير القرآن من الآيات الحسية والأخبار النبوية بالغيب التي ظهر بعضها في زمنه وبعضها بعد زمنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، كقوله في سبطه الحسن وهو طفل « ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين »{[891]} ، وقوله في عمار بن ياسر:« قتلته الفئة الباغية »{[892]} ، وقوله:« صنفان من أهل النار لم أرهما بعد رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ، على رؤوسهن كأسنمة البخت »{[893]} .
النوع الثالث من شهادته لرسوله:شهادة كتبه السابقة له وبشارة الرسل الأولين به ، ولا تزال هذه الشهادات والبشائر ظاهرة فيما بقي عند اليهود والنصارى من تلك الكتب وتواريخ أولئك الرسل عليهم السلام على ما طرأ عليها من التحريف ، وقد تقدم بيان ذلك في تفسير السور السابقة ولاسيما المائدة .ولا تنسى هنا أخذه تعالى العهد على الرسل وقوله لهم:{ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا ، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [ آل عمران:81] [ ج:3] .
وأما شهادته تعالى لما جاء به رسوله من التوحيد والبعث- وهو ما كانوا ينكرونه دون الآداب والفضائل والأحكام العلمية فهو ثلاثة أنواع:أحدها – شهادة كتابه معجز الخلق بذلك كقوله:{ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام} [ آل عمران:18 ، 19] ، وقوله:{ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ، قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم وذلك على الله يسير} [ التغابن:7] .
ثانيها:ما أقامه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق على توحيده واتصافه بصفات الكمال .وفي بيان ذلك في هذه السورة ما ليس في غيرها .
ثالثها:ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان الفطري وبالألوهية وبقاء النفس وما هدى إليه العقول السليمة من تأييد هذا الشعور الفطري بالدلائل والبراهين .ولعلنا نشرح معنى الإيمان الفطري الذي بيناه من قبل بيانا موجزا في تفسير آية العهد الإلهي الذي أخذه على بني آدم ، وهي قوله تعالى في سورة الأعراف:{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا} [ الأعراف:172] .
علم مما بيناه أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن ، وآياته في الأكوان وآياته في العقل والوجدان ، اللذين أودعهما في نفس الإنسان ، وهذه الآيات قد بينها القرآن وأرشد إليها ، فهو الدعوى والبينة ، والشاهد والمشهود له ، وكفى به ظهورا بالحق وإظهار له ، أنه لا يحتاج إلى شهادة غيره له ، على أن الشهود والأدلة على حقيقته كثيرة .وقد جاءت جملة « وأوحي إلي هذا القرآن » معطوفة على جملة « الله شهيد بيني وبينكم » مصدرة بالفعل المبني للمفعول لأن المراد بنصها بيان أن القرآن هو موضوع الدعوة والرسالة المقصود منها بالذات ، وتدل بموضعها دلالة إيمان على أنه أعظم شهادة لله تعالى .
وقوله تعالى:{ لأنذركم به ومن بلغ} نص على عموم بعثة خاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام ، أي لأنذركم به يا أهل مكة أو يا معشر قريش أو العرب وجميع من بلغه ووصلت إليه دعوته من العرب أو العجم ، أو المعنى لأنذركم به أيها المعاصرون لي وجميع من بلغه إلى يوم القيامة .قال البيضاوي:وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه .اه .يعني أن العبرة في دعوة الإسلام بالقرآن فمن لم يبلغه القرآن لا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة ، وحينئذ لا يكون مخاطبا بهذا الدين .ومفهومه أن الحجة لا تقوم بتبليغ دعوة الإسلام بالقواعد الكلامية والدلائل النظرية التي بني عليها ذلك العلم ولكنا نرى المسلمين قد تركوا دعوة القرآن وتبليغه بعد السلف الصالح وتركوا العلم به وبما بينه من السنة إلى تقليد المتكلمين والفقهاء .والقرآن حجة عليهم وإن جعلوا أنفسهم غير أهل للحجة .
ومما روي عن تفسير السلف في الآية من الأحاديث والآثار ما أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب عن ابن عباس قال:« من بلغه القرآن فكأنما شافهته به – ثم قرأ –{ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}» ويؤيد الرواية أن القرآن لما كان متواترا بلفظه ومعناه كان من بلغه بعده صلى الله عليه وسلم كمن سمعه منه وإن كثرت الوسائط ، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان .وليس للأحاديث المروي كثيرها بالمعنى هذه المزية .فهي موضع اجتهاد:وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال:من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ:من بلغه القرآن حتى يفهمه ويعقله كان كمن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه .وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم:« هل دعيتم إلى الإسلام- ؟ قالوا لا .فخلى سبيلهم ثم قرأ:{ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} ثم قال-خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا » .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية التي جحدها المشركون وبراءته من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال:{ أءنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ( 19 )} قالوا إن الاستفهام هنا للتقرير مع الإنكار والاستبعاد .وقد أمره تعالى أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون ، ثم أمره أمرا آخرا بأن يشهد بنقيض ما يزعمون ويتبرأ منه وهو أن يصرح بأن الإله لا يكون إلا واحدا ، ويتبرأ مما يشركونه به من الأصنام وغيرها أو من إشراكهم مهما يكن موضوعه ، وإنما قال:{ قل إنما هو إله واحد} فأعاد الأمر ولم يعطف المأمور به على ما قبله لإفادة أن الإقرار بالوحدانية مقصود بذاته لا يغني عنه نفي الشهادة بالشرك .