{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 111 ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ( 1 ) الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 112 )} ( 111 – 112 ) .
عبارة الآيتين واضحة .وقد احتوتا بشرى ربانية للمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وحثا على ذلك .وتعدادا لصفات المؤمنين المخلصين واستغراقهم في دين الله وواجباته على سبيل التنويه والتثبيت .
تعليق على الآية:
{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ .....................}
والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
روى الطبري أن الآية الأولى عند بيعة العقبة الكبرى التي بايع فيها وفد الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل هجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة ؛حيث قال أحدهم عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترط لربك ولنفسك فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا .وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون به أنفسكم فقالوا: وما لنا إذا فعلنا ذلك ؟فقال: الجنة .فقالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل .فأنزل الله الآية .
ومع احتمال صحة المحاورة المروية عند بيعة العقبة فإن أسلوب الآية ومضمونها يسوغان الشك في صحة رواية نزولها في ظروف بيعة العقبة .بل إن الرواية نفسها تسوغ هذا الشك لأن كل ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوفد هو المنع والحماية بينما الآية واسعة المدى في الجهاد .ولقد ذكرنا في سياق شرح قصة وقعة بدر في تفسير سورة الأنفال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يرى له على الأنصار إلا الدفاع والحماية فقط .ولذلك لم يقدم على الاشتباك مع قريش إلا بعد أن استشارهم وأظهروا استعدادهم للحرب مما فيه تأييد لذلك .ولقد ربط الطبري وغيره بين الآية الأولى والثانية وقالوا: إن الله قد بين في الثانية صفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم ؛حيث يفيد هذا أن الآيتين نزلتا معا .وهو ما لم تروه الرواية .والانسجام بين الآيتين تام يؤيد ذلك .فضلا عن أن ما في الآية الثانية من صفات لم يكن بعد متحققا في الذين بايعوا بيعة العقبة .
وبالإضافة إلى هذا فإننا نرى التناسب قائما بين الآيتين والسياق السابق بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا بالمخامرين المنافقين ثانيا ،والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا .
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ .وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا .وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا .
ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها .
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم ؛حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة .ففي هذا ما فيه من قوة الحث على الجهاد والدعوة إليه .وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه .وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة .
ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه: ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون ) ( 1 ){[1135]} .
وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين رجوعه من غزوة عسفان أولى غزواته: ( آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) ( 1 ){[1136]} .وروى ابن سعد أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قرر العودة من غزوة الطائف بعد وقعة حنين قال للمسلمين: ( قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .فلما ارتحلوا قال: قولوا آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) ( 2 ){[1137]} .
والفرق بين ما جاء في هذه الأحاديث والآية هو: أن الصيغة في الأحاديث إعلان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالتوبة والإنابة إلى الله وحمده .في حين أن صيغة الآية أشمل وأوسع .وفيها تثبيت للصفات العظيمة التي تتحقق في المؤمنين من إنابة إلى الله وتوبة وجهاد وعبادة وسجود وركوع وسياحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحفظ لحدود الله حينما يوفون ما أوجبه عليهم تعاقدهم على شراء الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة من قتال في سبيله .وتنويها بهم وتبشيرا لهم ؛حيث تكون حكمة التنزيل شاءت أن توحي قرآنا بصيغة أوسع وأشمل لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتف به ويأمر المسلمين بالهتاف به كلما عاد وعادوا معه من سفر وجهاد في أعقاب غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها عدد جيوش وبعد مدى وأهداف ومشقة .
وهذا لا ينقض ما قلناه استئناسا بإطلاق العبارة القرآنية من شمول مدى الآية لكل مسلم حينما يقوم بواجبه من القتال في سبيل الله نتيجة لتعاقده مع الله ببيع نفسه وماله بالجنة .
وفي صدد جملة:{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} نقول: إن القرآن احتوى آيات عديدة فيها دعوة للجهاد بالمال والنفس وحث عليه ووعد رباني بالنصر والجنة للمجاهدين .ومن آخرها الآيات: ( 88 – 89 ) من هذه السورة وإذا لم يكن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى شيء صريح من ذلك فلا يعني هذا نفي ما جاء في الجملة القرآنية .
فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية ( 158 ) من سورة الأعراف .وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلغه الله عز وجل لموسى عليه السلام أو بلغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة .وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلغه الله عز وجل لموسى أو بلغه موسى لبني إسرائيل .والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلغه الله عز وجل لعيسى وبلغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم .ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عز وجل .ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية ( 48 ) من سورة المائدة .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة متقاربة لأوله مع زيادة مهمة ،فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي: ( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة .والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم .لونه لون دم وريحه ريح مسك .والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا .ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني .والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ..............) ( 1 ){[1138]} .
هذا ،ولقد رأينا المفسر يقف عند كلمة:{السائحون} ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة ؛حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها .وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا .ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة ،فإن في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا .ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه .ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية .والله تعالى أعلم .