المؤمن هو وما له ملك لله
قال تعالى:إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليهم حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم111 التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين 112 ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفر للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم113 وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم114
الشراء جالب للمبيع ، ومقدم للثمن ، فالمؤمنون وأموالهم هم المبيع ، والجنة ، وما فيها هي الثمن ، وإن هذه الآية تصور المؤمنين يقدمون أنفسهم ويبيعون لله تعالى بين السماح راضين ، فهم أنفسهم وأموالهم يملكونها لله تعالى والثمن أنه يعدهم بالجنة يدخلونها ، وما هو أعظم من الجنة ، وهو رضوان الله تعالى ، ولم يذكر هنا لأن الآية تتضمنه ؛ لأنه سبحانه وتعالى قد رضي بالصفقة ، وهي تقديم النفس والمال ، ولا يمكن أن يكون إلا ومعه الرضا من البيع ، وهو أعلى ما يملكه الإنسان ، فهو النفس والنفيس .
وإن تلك العبارة مصورة ، ولكنها وقعت قبيل الهجرة ، ففي العقبة الثانية كانت المبايعة على هذا الأساس في البيع والثمن بين الرسول ، والأوس والخزرج ، وقد قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم:اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:أشترط لربي أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا:فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال صلى الله عليه وسلم الجنة ، فقالوا نربح البيع لا نقيل ، ولا نستقيل .
وهذه بلا ريب صور حسية للعقد ، وإن كانت الآية مصورة ، لتسليم المؤمنين أنفسهم لله تعالى ، العلي الحكيم ، الغني الحميد ، ويروى أن أعرابيا سمع هذه الآية ، فقال:من يقول هذا ؟ قالوا:الله . قال:بيع مربح .
وقد بين الله تعالى ثمرة البيع أو آثاره التي يتحقق فيها ما يجب على البائع ، فإن عليه أن يقدم المبيع ، فقال سبحانه وتعالى:{ يقاتلون في سبيل الله} ، فالزمخشري ومن تبعه ، على أن الفعل هنا بمعنى الأمر ، أي عليكم أن تقاتلوا في سبيل الله ، وقال إن ذلك كقوله تعالى:{. . . . وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم . . .11}( الصف ) .
ونقول إن الإتيان بالصيغة الخبرية بمعنى الطلب كثير في القرآن ، وهو من بلاغة القرآن ؛ لأن المؤدي أنه كان الطلب فاستجاب بقوله تعالى:{ والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء . . .228}( البقرة ) ، وقوله تعالى:{ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . . .233}( البقرة ) .
والوجوب هنا له قرائن شاهدة ؛لا ن المقاتلة في سبيل الله تعالى من آثار العقد المبرم بين الله تعالى والمؤمنين إذا باعوا أنفسهم وأموالهم إليه ، فهو المالك ، وما يجيء بعد ذلك من تصرف المالك فيما يملك ، والمقاتلة لا تكون في سبيل الله تعالى إلا بشرطين-أولهما- إخلاص النبية ، فلا يقاتل لذات الغلب أو الفروسية ، إنما يقاتل لتكون كلمة الله تعالى في العليا ، فمن قاتل لغير ذلك لا يكون قتالا في سبيل الله تعالى .
والشرط الثاني – أن يدخل غير مستبق لنفسه ، كما كان يفعل المجاهدون الأولون أمثال حمزة وعلي والزبير الذين يدخلون المعركة ، فلا يدرون أيقعون على الموت ، أم يقع الموت عليهم ، ولذا قال تعالى:
{ فيقتلون ويقتلون} أي فإذا دخلوا في القتال رضوا بمرارته ، وإرادة النصر ، وأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا ، فيقتلون الكفار في سبيل الله ، ويقتلون هم في هذا ، ولا يحسبون أنهم يخسرون في الحالين ، فإن قتلوهم فذلك سبيل النصر ، وإن قتلوا سارعوا إلى قبض الثمن في الصفقة التي عقدوها مع بربهم .
وفي هذا النص الذي ذكره القرآن الكريم أمران نتكلم فيهما:
أولهما- أن هذا النص يشير إلى أن الفرار لا يجوز ، لأنه ضن بتسليم المبيع وهو النفس ، ولا يضن مؤمن بتقديم ما عاهد الله تعالى عليه ، وقد قال تعالى في آية أخرى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار15}( الأنفال ) .
الثاني أن هنا قراءتين- أولاهما- فيقتلون بالبناء للفاعل ، والثانية بالبناء للمفعول ، والقراءة الثانية العكس{[1281]} ، وكل قراءة قرآن ، وبمجموع القراءتين تكون الآية داعية إلى ألا يفرقوا بين أن يقتلوا أو يقتلوا ، فإن الملكية التي أثبتوها لله تعالى تسوغ ذلك ، وتوحيه كما نوهنا .
وقد قدموا أنفسهم لله تعالى ، وأكد الله تعالى أن الثمن الذي قدره ، وهو مربح ، ويزيد أضعافا مضاعفة على ما أعطوا- آت لا محالة؛ لأنه وعده الذي وعده ، ولذا قال تعالى:{ وعدا عليه حقا} أي وعد الله وعدا حقا لا يتخلف ؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد ، وإذا كنتم قد قدمتم ما عندكم ، فإن الله تعالى مقدم ما وعدكم ، وأكد سبحانه وتعالى وعده وعهده ، فقال:{ ومن أوفى بعهده من الله} هذا استفهام إنكاري بمعنى نفى الوقوع ، والمعنى لا أحد أوفى بعهده من الله ، وجاء النفي على صيغة الاستفهام للتثبيت ، وتأكيد النفي وتوثيق العهد ، وسماء الله تعالى عهدا ، لبيان قوته ، وكان فيه طرفان ، والله أعلى وأجل ، وإذا كان الوفاء محققا لوعد الله تعالى بالوفاء .
وقد أكد الله وعده بأمور ثلاثة:
أولها:أنه حق ثابت مؤكد لا يمكن أن يتخلف أبدا ، وكيف يتخلف ، وهو من الله العزيز الحكيم .
ثانيها:أنه ذكر أن الجهاد ثابت ما دام هناك حق يغالب باطلا ، وأن الله تعالى وعد المجاهدين بالنصر ، وأن جهادكم مذكور في التوراة والإنجيل والقرآن كما قال تعالى:{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون157}-الأعراف .
وهذا النص يدل على أن الجهاد واجب ؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدل على ان الذين آمنوا عليهم أن يعزروه ويؤازروه وينصروه ، ولأن الجهاد من أتباع النور الذي جاء به .
ولقد قال في سورة الفتح في وصف المجاهدين المؤمنين:{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما29} .
ثالثها- قوله تعالى:{ ومن أوفى بعهده من الله} ، وذلك كقوله تعالى:{. . .ومن أصدق من الله حديثا87}( النساء ) وكقوله عز من قائل:{. . .ومن أصدق من الله قيلا122}( النساء ) وأن الإخلاف مستنكر لا يقدم عليه الكرام ، فكيف يكون من الله ، ولا شك أن ذلك العقد المقدس كان خيرا على من عقدوه مع الله تعالى خالق وبارئ النسم . ولذا قال تعالت كلماته ،{ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} ، الاستبشار طلب البشرى ، أو نيلها ، وقد نالوا هذه البشرى من الله تعالى ، و( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن وعد الله إذا كان مقررا في الرسالات الإلهية التي جاءت بها التوراة والإنجيل والقرآن ، فإن على الذين يحق عليهم العهد أن يستبشروا ببيعهم أنفسهم لله تعالى ، فإن الثمن عظيم ، وقوله تعالى الذي بايعتم به أي بعتم به أنفسكم ، فتبايعتم على أن تقدموها ، وتأخذوا بدلها ثمنا غاليا هو أغلى ما في الوجود من ثمن مقدر ، وتسليمه محقق ، وهو ممن يملكه .
وختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل:{ وذلك هو الفوز العظيم} الإشارة إلى التبايع ، أو الثمن ، وهو الجنة وهو الفوز العظيم ، وفيه قصر الفوز على العظمة ، أي أنه فوز يعد فوزا عظيما خيره ، اللهم اجعلنا من أهله .