/م111
{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} هذا تمثيل لإثابة الله المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بتمليكهم الجنة دار النعيم الأبدي ، والرضوان السرمدي ، تفضل جل جلاله وعم نواله بجعلها من قبيل من باع شيئا هو له لآخر ، لطفا منه تعالى وكرما وتكريما لعباده المؤمنين بجعلهم كالمتعاقدين معه ، كما يتعاقد البيعان على المنافع المتبادلة ،وهو عز وجل المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها ، والمالك لأموالهم إذ هو الذي رزقها ، وهو غني عن أنفسهم وأموالهم ، وإنما المبيع والثمن له وقد جعلهما بكرمه لهم .
وقوله:{ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ} بيان لصفة تسليم المبيع وهو أنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل الموصلة إلى مرضاته تعالى فيبذلون أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله ، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيلقرأ الجمهور بتقديم ( يقتلون ) المبني للفاعل ، وحمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول ، فدلت القراءتان على أن الواقع هو أن يقتل بعضهم ويسلم بعض ، وأنه لا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل ، والمثوبة عند الله عزّ وجلّ ، إذ كل منهما في سبيله لا حبا في سفك الدماء ، ولا رغبة في اغتنام الأموال ، ولا توسلا إلى ظلم العباد ، كما يفعل عباد الدنيا من الملوك ورؤساء الأجناد .
{ وعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإِنجِيلِ والْقُرْآنِ} أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه لهم على نفسه ، وجعله حقا عليه أثبته في الكتب الثلاثة المنزلة على أشهر رسله ، ولا تتوقف صحة هذا الوعد على وجوده في التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل الكتاب بنصه لما أثبتناه من ضياع كثير منهما ، وتحريف بعض ما بقي لفظا ومعنى ، بل يكفي إثبات القرآن لذلك وهو مهيمن عليها .( راجع ج 10 ) .
{ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ} ؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله عزّوجلّ ، إذ لا يمنعه من ذلك عجز من الوفاء ، ولا يمكن أن تعرض له فيه التردد أو البداء ،{[1645]} .
{ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} الاستبشار الشعور بفرح البشرى أو استشعارها ، الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتألق نورها ، والجملة تقرير لتمام صفقة البيع من الجانبين .
{ وذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا يتعاظمه فوز ، دون ما يتقدمه من النصر والسيادة والملك ، الذي لا يعد فوزا إلا بجعله وسيلة لإقامة الحق والعدل .أعلى الله تعالى مقام المؤمنين المجاهدين في سبيله فجعلهم بفضله مالكين معه ، ومبايعين له ، ومستحقين للثمن الذي بايعهم به ، وأكد لهم أمر الوفاء به وإنجازه ، ويروى عن جدنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام في معنى الآية .
أثامن بالنفس النفيسة ربها فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها أشتري الجنات ، إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن
ويروى عنه أنه قال:ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها .ومعناه أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله كان باذلا لبدنه الفاني لا لروحه الباقية ، وليس معناه أن يبيع لربه جسده دون نفسه الناطقة كما توهم بعض المتفلسفين .
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال:نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فكبر الناس في المسجد ، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال:يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية ؟ قال:"نعم "فقال الأنصاري:بيع ربيح ، لا نقيل ولا نستقيل ، يعني البيع .
وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:اشترط لنفسك ولربك فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ".قالوا:فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال: "الجنة "قال:ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل .فنزلت الآية .وظاهر هذا أنها نزلت في مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وتفصيله فيما يلي ، وإن لم يصرح بأنه سبب النزول .
وأخرج ابن سعد عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال:يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا ؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة .فقالوا:نحن حرب لمن حارب ، وسلم لمن سالم .فقال أسعد بن زرارة:يا رسول الله اشترط علي ، فقال: "تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا تنازعوا الأمر أهله ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم ".قالوا:نعم ، قال قائل الأنصار:نعم هذا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ قال: "الجنة والنصر ".
وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال:انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس بن عبد المطلب- وكان ذا رأي- إلى السبعين من الأنصار عند العقبة ، فقال العباس:ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة ، فإن عليكم للمشركين عينا ، وإن يعلموا بكم يفضحوكم .فقال قائلهم -وهو أبو أمامة أسعد-:يا محمد سل لربك ما شئت ، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت ، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك ، فقال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ".قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال: "الجنة ".فكان الشعبي إذا حدث هذا الحديث قال:ما سمع الشيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها .
ومعنى نزولها في مبايعة الأنصار أنها تدخل في عموم الآية دخولا أوليا لا أنها خاصة بها .
وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعا:"من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله ".
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال:ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة .وفي لفظ:اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوالَهُم} .
ولكن العجب ممن يدعون الإيمان وهم ينكثون بيعة الله عزّ وجلّ ، فهم لا يبذلون أنفسهم ولا شيئا من أموالهم في سبيل الله ، وإنما يطلبون الجنة بغير ثمنها ، كما يطلبون سعادة الدنيا وسيادتها من غير طريقها ، ولا طريق لها إلا الجهاد بالمال والنفس .والقرآن حجة عليهم وهو حجة الله البالغة التي لا يدحضها شيء وهي تدحض كل شيء .