/م111
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين البائعين أنفسهم وأموالهم لله تعالى بجنته ودار كرامته ، فقال:
{ التَّائِبُونَ} أي التائبون الكاملون في توبتهم وهي الرجوع إلى الله تعالى عن كل ما يبعد عن مرضاته ، وتختلف باختلاف أحوال أهلها ، فتوبة الكفار الذين يدخلون في الإسلام هي الرجوع عن الكفر الذي كانوا عليه من شرك وغيره كما تقدم في قوله تعالى:{ فَإِن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} [ التوبة:11] ، وتوبة المنافق من النفاق وتقدم ذكرها في هذه السورة أيضا ، وتوبة العاصي من المعصية ، ومنه توبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين ، وتقدم قريبا ذكر من تاب منهم ومن أرجئ أمره ، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير إنما تكون في التشمير فيه والاستزادة منه ، وتوبة من يغفل عن ربه إنما تكون في الإكثار من ذكره وشكره ، وسيأتي ذكر توبة الله تعالى على الجميع في الآيتين ( 117 و 118 ) .
{ الْعَابِدُونَ} لله ربهم وحده ، مخلصين له الدين في جميع عباداتهم في عامة أوقاتهم ، لا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استعانة ، ولا يترقبون إلى سواه بعمل مما يقصد به القربة ومثوبة الآخرة .
{ الْحَامِدُونَ} لله ربهم في السراء والضراء ، بالثناء عليه بلفظ الحمد وغيره من الذكر المشروع الدال على الرضا منه تعالى ، ومهما يصب الإنسان من مصائب الدنيا فإنه يبقى له منه النعم فيها وفي الدين ؛ بل يبقى له من اللطف الإلهي في نفس المصائب ما يجب عليه أن يحمد الله ويشكره عليه .
( وتقدم بيان الحمد والعبادة في تفسير سورة الفاتحة وغيرها ) .
{ السَّائِحُونَ} في الأرض ، يجوبون الأقطار لغرض صحيح ، من علم أو عمل كالجهاد في سبيل الله ، وروي عن عطاء ، أو للهجرة حيث تشرع الهجرة ، وروي عن عبد الرحمن بن زيد قال:السائحون هم المهاجرون ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة .أو لطلب العلم النافع للسائح في دينه أو دنياه ، أو النافع لقومه وأمته ، وروي عن عكرمة ، وخصه بعضهم بطلب الحديث:( لأنهم كانوا يسافرون من مصر إلى أخرى للرواية ) ، أو للنظر في خلق الله وأحوال الشعوب والأمم للاعتبار والاستبصار ، ومعرفة سنن الله تعالى وحكمه وآياته ، وهذا ما تدل عليه الآيات المتعددة في الحث على السير في الأرض كما بيناه في الأصلين ( 13 و14 ) من الأصول العلمية التي استنبطناها من سورة الأنعام ( ج 8 ) .
وروي عن عبد الله بن مسعود أن المراد بالسائحين الصائمون ، وقاله في تفسير ( سائحات ) من سورة التحريم ، وتعلق به مصنفو التفاسير لاستبعادهم مدح الله تعالى النساء بالسياحة في الأرض ، وإنما يحظر في الإسلام سفر المرأة منفردة دون زوجها أو أحد محارمها ، وأما إذا كانت تسيح مع زوجها والمحرم حيث يسيح لغرض صحيح من علم نافع أو عمل صالح أو طلب الصحة أو الرزق فلا إشكال في مدحها بالسياحة ؛ بل ينبغي اشتراك الرجال والنساء في جميع أعمال الحياة النافعة .
وأزيد على ذلك السياحة والسفر لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها ، وإذا صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصحبون نساءهم في غزواتهم عند الإمكان ، وهن غير مكلفات بالقتال ، بل يساعدن عليه بتهيئة الطعام والشراب ، وتضميد الجراح وغير ذلك كما تقدم في تفسير الآية 71 ،{ والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ( ج 10 ) فلأن يصحبنهم في سائر الأسفار أولى .وفي سفر المرأة مع زوجها إحصان له ولها ، فهو مانع للمسلم من التطلع في السفر إلى غيرها .
وعلل سفيان بن عيينة تفسير السائحين بالصائمين بأن الصائم يترك اللذات كلها كالسائح للتعبد ، ومثله أو منه قول الأزهري:يسمى الصائم سائحا لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا يحمل زادا ، فكان ممسكا عن الأكل .ولهذا التعليل خص بعضهم إطلاق وصف السائحين على الصائمين بالذين يديمون الصيام ، وأخذ بعضهم بظاهر اللفظ ، فقال:يكفي في صحة الوصف صيام الفرض ، وكل ذلك ضعيف .
والصوفية يخصون السائحين الممدوحين باللذين يهيمون في الأرض لتربية إرادتهم ، وتهذيب أنفسهم باحتمال المشاق ، والبعد عن مظان السمعة والرياء ، لجمع القلب على الرب عزّ وجلّ بالإخلاص في عبادته ، والتكمل في منازل معرفته ، كالسياحين من الأمم قبلهم ، وقد كان إطلاق السياحة بهذا المعنى ذائعا من قبل الإسلام ، حتى قال صاحب القاموس:السياحة الذهاب في الأرض للعبادة ، ومنه سمي المسيح الخ ، واعترضوه فيه ، فإنما هو عرف ليس من أصل اللغة ، وتقدم معنى السياحة اللغوي في تفسير قوله تعالى:{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} ، وهو أول آية من هذه السورة ( ج 10 ) .
وقد حدث للمتصوفة بدع في السياحة ، كقصد مشاهد القبور المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين للتبرك بها ، والاستمداد من أرواح من دفنوا فيها ، وكثير منهم يكون له هوى في التنقل من بلد إلى آخر ، فيظل هائما في الأسفار ، وينقطع بذلك عن الأعمال التي تنفع الناس وعن الزواج ، ويرتكب بعضهم فيها كثيرا من المنكرات ، ويكون لهم طمع في استجداء الناس ، والسؤال حرام إلا لضرورة ، والفقهاء ينكرون عليهم سياحتهم هذه .
قال ابن الجوزي:السياحة في الأرض لا لمقصود ولا إلى مكان معروف منهي عنها .وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رهبانية في الإسلام ، ولا تبتل ، ولا سياحة في الإسلام ".وقال الإمام أحمد:ما السياحة من الإسلام في شيء ، ولا من فعل النبيين والصالحين ، ؛ لأن السفر يشتت القلب ، فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به اه .
وأقول:روى ابن جرير من حديث أبي هريرة مرفوعا وموقوفا حديث"السائحون هم الصائمون "، ولا يصح رفعه ، وروي عن عائشة وابن عباس ومجاهد وغيرهم من أقوالهم ، ومن مرسل عمرو بن دينار عن عبيد بن عميرة ، وروى أبو داود من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال:يا رسول الله ائذن لي بالسياحة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عزّوجلّ "{[1646]} ، قال الحافظ المنذري:القاسم هذا تكلم فيه غير واحد .اه .أقول:منهم الإمام أحمد ، كان يقول فيما يروى عنه من المناكير:إنها من قبله ، ويقول بعضهم:إنها ممن روى عنه من الضعفاء ، لا منه ، وقال ابن حبان:كان يروي عن الصحابة المعضلات .
وللإمام الغزالي في كتاب السفر من الإحياء كلام نفيس في فوائد السياحة والاعتبار بآيات الله تعالى فيها ، لا يوجد في غيره مثله .
{ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ} لله تعالى في صلواتهم .والصلاة تذكر تارة بلفظها وتارة ببعض أركانها كالقيام والركوع والسجود .وهذا الوصف يفيد التذكير بهذه الهيئة وتمثليها للقارئ والسامع .
{ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} تقدم معنى هذا الأمر والنهي ومكانته من صفات المؤمنين في تفسير الآية ( 71 ) من هذه السورة ( ج 10 ) ، وهذه الصفة وما بعدها من الصفات المتعلقة بجماعة المؤمنين فيما يجب على بعضهم لبعض ، وكل ما قبلها من صفات الأفراد .
{ والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ} أي شرائعه وأحكامه التي حدد فيها ما يجب وما يحظر على المؤمنين من العمل بها ، وما يجب على أئمة المسلمين وأولي الأمر وأهل الحل والعقد منهم إقامتها وتنفيذها بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلوا بما يجب عليهم من الحفظ لها .
{ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشر أيها الرسول المؤمنين الموصوفين بهذه البضع الصفات ، ولم يذكر ما يبشرهم به لتعظيم شأنه وشموله لخير الدنيا وسعادة الآخرة .
ومن مباحث اللغة أن المعدودات تسرد بغير عطف ، وإنما عطف النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب .وأما عطف"الحافظون لحدود الله "على جملة ما تقدم فقيل:لأن التعداد قد تم بالوصف السابع من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء عدد آخر معطوف عليه ، وإن هذه الواو تسمى واو الثمانية .وأنكر هذه الواو النحاة المحققون ، وقيل:لأنه إجمال لما تقدم من التفصيل قبله ، فلا يصح أن يجعل فردا من أفراده فيسرد معه ، وأقوى منه عندي أنه وصف جامع للتكاليف عامة ، والمنهيات خاصة ، والسبعة المسرودة قبله من المأمورات ، ولا يحصل الكمال للمؤمن بها إلا مع اجتناب المنهيات ، وهو أول ما يلاحظ في حفظ حدود الله قال تعالى:{ تلك حدود الله فلا تقربوها} [ البقرة:187]{ وتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [ البقرة:229]{ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [ الطلاق:1] ، وعلى هذا يكون معنى نظم الآية أن المؤمنين الكاملين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى هم المتصفون بالصفات السبع ، والحافظون مع ذلك لجميع حدود الله في كل أمر ونهي ، ويعبر عن هذا في عرف هذا العصر بقولهم: "المثل الأعلى "ويطلقونه على الأفراد النابغين في بعض الفضائل العامة ، وعلى الجماعات والأمم الراقية ، ويكفي أن يقال فيه:"المثل "في كذا .كما قال تعالى:{ ولما ضرب ابن مريم مثلا} [ الزخرف:57] وقال:{ وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [ الإسراء:2] ، أو يقال:مثل عال ، أو مثل شريف .وأما الأعلى فهو الله عزّ وجلّ كما قال عن نفسه{ ولله المثل الأعلى} [ النحل:60] ، وقال:{ ولَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاواتِ والْأَرْضِ وهُو الْعزيز الْحَكِيمُ} [ الروم:27] .
وجملة القول فيهم أنهم الحافظون لجميع حدود الله تعالى ، وخصت تلك الخلال السبع بالذكر لأنها هي التي تمثل في نفس القارئ أكمل ما يكون المؤمن به محافظا على حدود الله تعالى .