/م111
ثمّ يعمد إِلى التفصيل في الآية التي تليها ،فقد بيّن سبحانه في الآية الثّانية حال البائعين للروح والمال لربّهم عزَّ وجلّ ،فذكر تسع صفات مميزة لهم:
1فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة: ( التائبون ) .
2وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم: ( العابدون ) .
3وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية: ( الحامدون ) .
4وهم يتنقلون من مكان عبادة إِلى آخر: ( السائحون ) .
وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة ،أو في إطار محدود ،بل إن كان مكان هو محل عبادة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء ،وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه .
( سائح ) في الأصل مأخوذ من ( سيح ) ،و( سياحة ) والتي تعني الجريان والاستمرار .
وهناك بحث بين المفسّرين فيما هو المقصود من السائح في الآية ،وأي نوع من الجريان والاستمرار والسياحة هو ؟فالبعض يرىكما قلنا أعلاهإن السير في تربية النفس وجهادها إِنّما يكون في أماكن العبادة ،ففي حديث عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «سياحة أُمّتي في المساجد »{[1687]} .
والبعض الآخر يقول: إِنّ السائح يعني الصائم ،لأنّ الصوم عمل مستمر طوال اليوم ،وفي حديث آخر عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إِن السّائحين هم الصّائمون »{[1688]} .
والبعض الآخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله ،ومعرفة المجتمعات البشرية ،والتعرف على عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإِنسان وتنميه وتطوره .
وفريق آخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التوجه إِلى ميدان الجهاد ومحاربة الأعداء ،ويستشهدون بالحديث النبوي: «إِنّ سياحة أُمّتي الجهاد في سبيل الله »{[1689]} .
وأخيراً فإنّ البعض يرى أنّها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها ،ومعرفة عوامل السعادة والانتصار ،وأسباب الهزيمة والفشل .
إِلاّ أنّ أخذ الأوصافالتي ذكرت قبل السياحة وبعدهابنظر الاعتبار يرجح المعنى الأوّل ،ويجعله الأنسب من بين المعاني الأُخرى ،وإن كانت كل هذه المعاني ممكنة في هذه الكلمة ،لأنّها جمعت في مفهوم السير والسياحة .
5وهم يركعون مقابل عظمة الله: ( الراكعون ) .
6ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له: ( الساجدون ) .
7وهم يدعون الناس لعمل الخير: ( الآمرون بالمعروف ) .
8ولم يقتنعوا بهذه الدّعوة للخير ،بل حاربوا كل منكر وفساد: ( والناهون عن المنكر ) .
9وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي ،أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله ،وإقامة الحق والعدالة: ( والحافظون لحدود الله ) .
وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّبمرّة أُخرىأمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل ،ويقول للنبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( وبشر المؤمنين ) .
ولما لم يذكر متعلق البشارة ،وبتعبير آخر: إنّ البشارة لما جاءت مطلقة فإنّها تعطي مفهوماً أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة ،أي بشر هؤلاء بكل خير وسعادة وفخر .
وينبغي الالتفات إلى أن الصفات الست الأُولى ترتبط بجانب جهاد النفس وتربيتها ،والصفة السّابعة والثّامنة ترتبطان بالواجبات الاجتماعية الحساسة ،وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات ،والصفة الأخيرة تتحدث عن المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة ،والمشاركة الجدية في المسائل السياسية الإيجابية .