{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ 113 ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأواهٌ حَلِيمٌ 114 ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 115 إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن ولِيٍّ ولاَ نَصِيرٍ 116}
تقدم في الآية الثمانين من هذه السورة أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين لأنهم كفروا بالله ورسوله الخ ، فاستغفار الرسول لهم وعدمه سيان .وتقدم في سورة النساء{ إن الله لا يغفر أن يشرك به} [ النساء:38 و 116] ، وقد شرع الله للمؤمنين في أوائل سورة الممتحنة التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه في البراءة من قومهم المشركين ومن معبوداتهم ، واستثنى من هذه الأسوة استغفار إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه ، فقال:{ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك من الله من شيء} [ الممتحنة:4] ، وقد تبين هنا حكم الاستغفار لمن ذكر ، وقفى عليه بقاعدة التشريع العامة التي يبنى عليها الجزاء ، فقال عزّ وجلّ:
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} هذا نفي بمعنى النهي ، فهو أبلغ من النهي المجرد ، وهذا التعبير فيه يسمى نفي الشأن ، وهو أبلغ من نفي الشيء نفسه ، لأنه نفي معلل بالسبب المقتضي له .والمعنى:ما كان من شأن النبي ولا مما يصح أن يصدر عنه من حيث هو نبي ، ولا من شأن المؤمنين ولا مما يجوز أن يقع منهم من حيث هم مؤمنون ، أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين .
{ ولو كانوا أولي قربى} لهم في الأصل حق البر وصلة الرحم وكانت عاطفة القرابة تقتضي الغيرة عليهم وحب المغفرة لهم ،"ولو "هذه تفيد الغاية ، المعطوف عليه يحذف حذفا مطردا للعلم به ، والمراد أنه ليس مما تبيحه النبوة ولا الإيمان ، ولا مما يصح وقعه من أهلهما الاستغفار للمشركين في حال من الأحوال ، حتى لو كانوا أولي قربى ، فإن لم يكونوا كذلك فعدم جوازه أولى .
ثم قيد الحكم بقوله تعالى:{ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أهل النار الخالدين فيها بأن ماتوا على شركهم وكفرهم ولو بحسب الظاهر ، كاستصحاب حالة الكفر إلى الموت ، أو نزل وحي يسجل عليهم ذلك ، كإخباره تعالى عن أناس من الجاحدين المعاندين من أصحاب النار خالدين فيها ، أو أنهم طبع قلوبهم وختم عليها .وقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [ البقرة:6] ، ومثله في المنافقين{ سواء عليهم أستغفرت لهم} [ المنافقون:6] الخ .
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أن هذه الآية نزلت في أبي طالب ، إذ دعاه صلى الله عليه وسلم عند ما حضره الموت إلى قول ( لا إله إلا الله ) فامتنع ، وأبو طالب مات بمكة قبل الهجرة ، فهل نزلت الآية عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها ، أم نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له ؟ وروي من طرق أنها نزلت حين زار صلى الله عليه وسلم قبر أمه واستغفر لها ، والله أعلم ، والآية نص في تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة ، وكذا وصفه بذلك ، كقولهم المغفور له المرحوم فلان ، كما يفعله بعض المسلمين الجغرافيين الآن ، لعدم تحققهم بمقتضى الإيمان ، وتقيدهم بأحكام الإسلام ، ومنهم بعض المعممين والحاملين لدرجة العالمية من الأزهر .
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال:لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال:"أي عم ! قل:لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله "، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم:على ملة عبد المطلب .وأبي أن يقول:لا إله إلا الله .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "فأنزل الله{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وهُو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}{[1647]} [ القصص:56] .
هذا لفظ البخاري في تفسير الآية الأخيرة من سورة القصص ، وأخرجه في تفسير آية براءة وفي الجنائز أيضا .
قال الحافظ في شرحه للحديث:ووقع في رواية مجاهد قال:يا ابن أخي ملة الأشياخ .ووقع في حديث أبي حازم عند مسلم والترمذي والطبري قال:لولا أن تعيرني بها قريش يقولون:ما حمله على ذلك إلا جزع الموت لأقررت بها عينك .ثم قال الحافظ:وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي "، فقال أصحابه لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه ، فنزلت .
قال:وهذا فيه إشكال ؛ لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية ، والأصل عدم تكرار النزول ، وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ، ثم بكى فبكينا لبكائه ، فقال: "إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي ، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، فأنزل علي{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}".
وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه ، ومنه نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ولم يذكر نزول الآية ، وفي رواية الطبري من هذا الوجه لما قدم مكة أتى رسم قبر ، ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها ، فنزلت .وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه:لما هبط من ثنية عسفان .وفيه نزول الآية في ذلك .فهذه طرق يعضد بعضها بعضا ، وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب .ويؤيده أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شج وجهه:"رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ".{[1648]}
لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصا بالأحياء وليس البحث فيه ، ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم ، ويكون لنزولها سببان:متقدم وهو أمر أبي طالب ، ومتأخر وهو أمر آمنة ، ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك ، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب ، ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب:"وأنزل الله في أبي طالب{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ؛ لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره ، والثانية نزلت فيه وحده ، ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال:سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله:{ ما كان للنبي} الآية ، وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال:قال المؤمنون:ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه ؟ فنزلت .ومن طريق قتادة ذكرنا له أن رجالا فذكر نحوه .
وفي الحديث أن من لم يعمل خيرا قط إذا ختم عمره بشهادة أن لا إله إلا الله حكم بإسلامه ، وأجريت عليه أحكام المسلمين ، فإن قارن نطق لسانه عقد قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة وعجز عن فهم الخطاب ، ورد الجواب ، وهو وقت المعاينة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{ ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [ النساء:18] والله أعلم اه كلام الحافظ ، وقد تعددت الروايات في استغفار بعض الصحابة لآبائهم وأولي قرباهم من المشركين تأسيا به صلى الله عليه وسلم حين استغفر لعمه حتى نزل النهي فكفوا .