{ ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} مما يدخل في عموم تأسيكم به على إطلاقه ، فإنه ما كان وما وقع لسبب ولا علة{ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إِيَّاهُ} في حياته إذ كان يرجوا إيمانه فقال له:{ لأستغفرن لك وما أملك من الله من شيء} [ الممتحنة:4] ، أي لا أملك لك هداية ولا نجاة ، وإنما أملك دعاء الله تعالى .وقد وفى بوعده وما كان إلا وفيا كما شهد له تعالى بقوله:{ وإبراهيم الذي وفى} [ النجم:37] ، فكان من دعائه{ واغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ولَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ الشعراء:8689] ، أي من الشرك والكفر والشك المقتضي للنفاق ، فمن استغفر لحي يرجو إيمانه بقصد سؤال الله أن يهديه لما يكون به أهلا للمغفرة فلا بأس .
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} قال ابن عباس:لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه .وفي رواية عنه:فلما تبين له أنه عدو الله يقول:لما مات على كفره .وقال قتادة:تبين له حين مات ، وعلم أن التوبة انقطعت عنه .وقيل:إنه تبين له ذلك بوحي من الله تعالى ، فحينئذ تبرأ منه ومن قرابته ، وترك الاستغفار له كما هو مقتضى الإيمان{ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ} [ المجادلة:22] الآية .
ورد أن إبراهيم يعد من الخزي له يوم القيامة أن يكون أبوه في النار ، كما رواه البخاري من حديث رؤيته في النار ، وأنه يقول:"يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد "، فيمسخ الله أباه ذيخاوهو ذكر الضباع الكثير الشعر حتى لا يخزى إبراهيم ابنه برؤيته في النار على صورته المعروفة له ولقومه .وقد تقدم لفظ الحديث في قصة إبراهيم مع أبيه من تفسير سورة الأنعام ( ج 7 ) .
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأواهٌ حَلِيمٌ} هذه الجملة المؤكدة بوصف إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالمبالغة في خشية الله والخشوع له ، وبالحلم والثبات في أموره كلها ، تعليل لامتناعه عن الاستغفار لأبيه بعد العلم برسوخه في الشرك وعداوة الله عزّ وجلّ .الأواه الكثير التأوه والتحسر ، وإنما يتأوه إبراهيم من خشية الله ، ويتحسر على المشركين من قومه ولاسيما أبيه ، ويطلق الأواه على الخاشع الكثير الدعاء والتضرع ، وأصل التأوه قول"أوّه "( بالكسر منونا وغير منون ) أو واه ، أو أوه .وفي حديث مرفوع في التفسير المأثور:"الأواه الخاشع المتضرع "، وعن ابن عباس فيه روايات:منها أنه المؤمن أو الموقن بلسان الحبشة ،{[1649]} والحليم الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ، لا يستخفه الجهل أو هوى النفس ، ومن لوازمه الصبر والثبات والصفح والتأني في الأمور ، واتقاء العجلة في كل من الرغب والرهب ، وذهب الزمخشري إلى أن الجملة تعليل لما كان من استغفاره لأبيه ، قال بعد تفسير الأواه بالذي يكثر التأوه:ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحمله كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه وقوله ( لأرجمنك ) اه .