قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبيه قال:لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال:"أي عم ، قل:لا إله إلا الله . كلمة أحاج لك بها عند الله ، عز وجل ". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ [ قال:فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به:على ملة عبد المطلب] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". فنزلت:( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) قال:ونزلت فيه:( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص:56] أخرجاه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال:سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت:أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال:أولم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت:( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) إلى قوله:( فلما تبين له أنه عدو لله ) قال:"لما مات "، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو في الحديث "لما مات ".
قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال:لما مات .
وقال الإمام أحمد:حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم ، وقال:يا رسول الله ، ما لك ؟ قال:"إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث:نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، لتذكركم زيارتها خيرا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكرا ".
وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر ، فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرا . فقلنا:يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت . قال:"إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ". فما رئي باكيا أكثر من يومئذ .
وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره:حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جريج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال:"ما أبكاكم ؟ "فقلنا:بكينا لبكائك . قال:"إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي "ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه:"وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي:( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة ".
حديث آخر في معناه:قال الطبراني:حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه:أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمه ، فناجى ربه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه ، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا:ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث في أمته شيء لا تطيقه . فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال:"ما يبكيكم ؟ ". قالوا:يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا:لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال:"لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي أمي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال:( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) فتبرأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمتها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين:دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج ". وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم .
وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب "السابق واللاحق "بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت . وكذلك ما رواه السهيلي في "الروض "بسند فيه جماعة مجهولون:أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به .
وقد قال الحافظ ابن دحية:[ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله تعالى:( ولا الذين يموتون وهم كفار ) [ النساء:18] . وقال أبو عبد الله القرطبي:إن مقتضى هذا الحديث . . . ورد على ابن دحية] في هذا الاستدلال بما حاصله:أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى علي العصر ، قال الطحاوي:وهو [ حديث] ثابت ، يعني:حديث الشمس .
قال القرطبي:فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال:وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب ، فآمن به .
قلت:وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله:( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك فقال:"فإن إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه "، فأنزل الله:( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) الآية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية:كانوا يستغفرون لهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فلما [ نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا] ثم أنزل الله:( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ) الآية .
وقال قتادة في هذه الآية:ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال:فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ". فأنزل الله:( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) حتى بلغ:( الجحيم ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال:( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال:وذكر لنا أن نبي الله قال:"أوحي إلي كلمات ، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي:أمرت ألا أستغفر لمن مات مشركا ، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ، ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلوم الله على كفاف ".
وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال:مات رجل يهودي وله ابن مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال:فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال:( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) لم يدع .
[ قلت] وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال:لما مات أبو طالب قلت:يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال:"اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ". وذكر تمام الحديث .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال:"وصلتك رحم يا عم ".
وقال عطاء بن أبي رباح:ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز وجل:( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) .
وروى ابن جرير ، عن ابن وكيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال:سمعت أبا هريرة يقول:رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه . قلت:ولأبيه ؟ قال:لا . قال:إن أبي مات مشركا .
وقوله:( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال ابن عباس:ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وفي رواية:لما مات تبين له أنه عدو لله .
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله .
وقال عبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير:إنه يتبرأ منه [ في] يوم القيامة حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغبرة والقترة فيقول:يا إبراهيم ، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك . فيقول:أي ربي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟ فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال:انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بذيخ متلطخ ، أي:قد مسخ ضبعانا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار .
وقوله:( إن إبراهيم لأواه حليم ) قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال:الأواه:الدعاء . وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود .
وقال ابن جرير:حدثني المثنى:حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل:يا رسول الله ، ما الأواه ؟ قال:"المتضرع "، قال:( إن إبراهيم لأواه حليم )
ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به ، قال:المتضرع:الدعاء .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين عن أبي العبيدين أنه سأل ابن مسعود عن الأواه ، فقال:هو الرحيم .
وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل ، والحسن البصري ، وقتادة:أنه الرحيم ، أي:بعباد الله .
وقال ابن المبارك ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:الأواه:الموقن بلسان الحبشة . وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس:أنه الموقن . وكذا قال مجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس:الأواه:المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه:المؤمن التواب . وقال العوفي عنه:هو المؤمن بلسان الحبشة . وكذا قال ابن جريج:هو المؤمن بلسان الحبشة .
وقال أحمد:حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له "ذو البجادين ":"إنه أواه "، وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء .
ورواه ابن جرير .
وقال سعيد بن جبير ، والشعبي:الأواه:المسبح . وقال ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال:لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه . وقال شفي بن ماتع ، عن أيوب:الأواه:الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها .
وعن مجاهد:الأواه:الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا .
ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم ، رحمه الله .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق:أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:"إنه أواه ".
وقال أيضا حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المنهال بن خليفة ، عن حجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا ، فقال:"رحمك الله إن كنت لأواها "! يعني:تلاء للقرآن وقال شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال:سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال:كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه:"أوه أوه "، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:إنه أواه . قال:فخرجت ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .
هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه .
وروي عن كعب الأحبار أنه قال:( إن إبراهيم لأواه ) قال:كان إذا ذكر النار قال:"أوه من النار ".
وقال ابن جريج عن ابن عباس:( إن إبراهيم لأواه ) قال:فقيه .
قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير:وأولى الأقوال قول من قال:إنه الدعاء ، وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله:( أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ) [ مريم:46 ، 47] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى:( إن إبراهيم لأواه حليم )