{ ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي وما كان من شأن الله تعالى في حلمه ورحمته ، ولا من سننه في خلقه التي هي مظهر عدله وحكمته ، أن يصف قوما بالضلال ، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب ، بعد إذ هداهم إلى الإيمان ، وشرح صدورهم بالإسلام ، بمجرد قول أو عمل صدر عنهم بخطأ الاجتهاد .
{ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} من الأقوال والأفعال ، بيانا جليا واضحا لا شبهة فيه ولا إشكال .
{ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو يشرع لهم من الأحكام ما تكمل به فطرتهم ، ويستقيم به رأيهم وفهمهم ، فبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء نفوسهم ، ويترك لهم مجالا للاجتهاد فيما دون ذلك من مصالحهم ، فهو لهذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن يتبين له حاله ، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله في ذلك ، وإن كان من شأنه أن يعلم أنه من لوازم الإيمان ، قال مجاهد في تفسير الجملة:بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيان طاعته و معصيته عامة ، ما فعلوا أو تركوا اه .
يعني أن الآية عامة وإن نزلت في مسألة استغفارهم للمشركين .وعن ابن عباس أنها نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى ، قال:لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم .ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون ، قال:حتى ينهاهم قبل ذلك اه .
وأقول:الآية متأخرة النزول عن غزوة بدر ، ولكنها شاملة لحكمها ، فقد تقدم أن أخذ الفداء من الأسرى هو في معنى الاستغفار للمشركين هنا من حيث إنه خلاف ما يقتضيه شأن النبوة والإيمان لقوله تعالى:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [ الأنفال:67] ، فهذا نفي للشأن كنفي الاستغفار هنا ، ثم قال تعالى هنالك بعد عتابهم الشديد{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ الأنفال:68] ، فابن عباس يفسر هذا الكتاب بحكمه تعالى في هذه الآية بأنه لا يحكم بضلال قوم في شيء فيعاقبهم عليه إلا بعد أن يبين لهم ما يتقون بيانا واضحا تاما لا مجال معه للاجتهاد الذي يكون عذرا في المخالفة ، سواء كانت هذه الآية نزلت وقتئذ أم لا ، فهذا حكم الله تعالى .
أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول:فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل ، ولا يغدو لسوى ذلك ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير .أيها الناس:إني والله ما أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم ، وقد قال الله تعالى:{ ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} فقد بين لكم ما تتقون .
ويؤخذ من هذا كله قاعدة أن أحكام الإسلام العامة التي عليها مدار الجزاء في الآخرة ، ويكلف العمل به كل من بلغه إن كان من الأحكام الشخصية ، ويؤخذ بها الأمة كلها ، وينفذه أئمتها وأمراؤها فيها ، هو ما كان قطعي الدلالة ببيان الله تعالى ورسوله لا حجة معه لأحد في تركه .وأن ما عداها منوط بالاجتهاد ، فمن ظهر له من نص ظني الدلالة حكم ، واعتقد أنه مراد الله من الآية وجب عليه اتباعه ، ومن لا فلا ، كما وقع عند نزول آية البقرة في الخمر والميسر ، إذ فهم بعض الصحابة من قوله تعالى:{ وإثمها أكبر من نفعهما} [ البقرة:219] تحريمهما فترك ، وبقي من لم يفهم هذا يشرب الخمر حتى بين الله تحريمها مع الميسر بيانا قطعيا بآيات المائدة .وأصل مذهب الحنفية أن الفرائض والتحريم الديني لا يثبتان إلا بالنص القطعي ، أو بنص القرآن القطعي ؛ بل هذا ما كان عليه علماء السلف .وتقدم تحقيق المسألة ( في ج 10 تفسير ) ، والآية تدل على بطلان قول بعض المبتدعة بالمؤاخذة على ما يجب بحكم العقل كالصدق والأمانة ، صرح به مفسرهم الزمخشري واستثناه من حكم الآية بأنه غير موقوف على التوقيف ، نعم أن حسنه يعلم بالعقل ، ولكن التكليف الذي يبنى عليه جزاء الآخرة لا يصح إلا بالشرع ، كما تدل عليه الآية وغيرها ، وقد أمر الله بالصدق والأمانة وأوجبهما وحرم الكذب والخيانة .كما بين كل ما أراد جعله دينا للناس .قد أخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن ما سكت عنه فلم يبينه لنا فهو عفو منه تعالى غير نسيان ، فليس لنا أن نسأل عنه ، ولا أن نضع له أحكاما بآراء عقولنا .وقد بسطنا هذه المسألة في تفسير{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا} [ المائدة:104] الخ ( راجع ج 7 ) مع الفصل الملحق به الخ .