قال تعالى:
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم115 إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير 116 لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم117 وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم118
( الواو ) تدل على وصل هذه الآية بما قبلها ، وما قبلها كان نهيا عن الاستغفار للمشركين ، وجاءت قصة إبراهيم عليه السلام في استغفار إبراهيم لأبيه تتمة للنهي عن الاستغفار ، وقد كان من المؤمنين من دفعته الرأفة بآله ، أو ذوي القربى أن استغفر لهم ، فكانت الآية لبيان أنه{ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} ،لبيان أنه لا مؤاخذة من غير تكليف ، وخصوصا لمن اختار سبيل الهداية .
وقوله تعالى:{ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} نفى مؤكد عن ذات الله تعالى ، أن يكون منها إضلال لمن اهتدى وعلى قول أكثر المفسرين ، ولتكون الآية مرتبطة بما قبلها ارتباطا وثيقا يكون معنى{ ليضل} الحكم بالضلالة والمؤاخذة عليها ، قبل أن يبين سبحانه ما يتقى من الضلالة ، فكما أنه سبحانه لا يعذب إلا بعد رسول مبين بمقتضى قوله تعالى:{. . . .وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا15}( الإسراء ) ، وكذلك لا يؤاخذ سبحانه بذنب ارتكب إلا بعد بيان أنه ذنب ، والطريق لاتقائه ، وهذا على أن الهداية التي هداهم الله هي الدخول في الإسلام فلا يحاسبك على شرب الخمر إلا بعد النهي عن الشرب ، ولا على الزنى إلا بعد النهي عنه ، ولا على القذف إلا بعد النهي عنه ، ووضع الحدود المانعة من الارتكاب ، وما كان الله تعالى ليؤاخذ على الاستغفار إلا بعد النهي عنه ، وفي النهي بيان لما يتقون به المؤاخذة .
وقد خطر لي ، وأنا اكتب ، أن يكون المعنى ، وما كان الله تعالى ليأخذ قوما ساروا بمقتضى الفطرة الإنسانية ، والميثاق الذي أخذه عليهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، فهذه هي الهداية الفطرية التي فطر الناس عليها ، فهذا معنى قوله تعالى:{ إذ هداهم} أي وقت أن هداهم في بدء الخليقة وقوله تعالى:{ حتى يبين لهم ما يتقون} أي حتى يبين ما يؤيد الفطرة ويدعمها ، ويبين لها ما تتقيه بأن تجعل بينها وبينه وقاية ، فلا تقع فيه ، والحاجز المانع هو أمر الله تعالى ونهيه ، وتكون متطابقة تماما مع قوله تعالى:{. . . . وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا15} ( الإسراء ) .
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:{ إن الله بكل شيء عليم} تأكيد لعلمه الذي يعم الوجود كله بالإحاطة والشمول ، وبالتأكيد ب( إن ) ، وبتصديره الجملة السامية بلفظ الجلالة ، وبمقتضى علمه الذي عم الوجود كله ، يقدر كل شيء ، ويدبره على مقتضى علمه وحكمته .