وبين سبحانه من بعد ذلك أنهم في ريب من أمر بنائهم ، وأشد ما يصاب به المنافق أنه في ريب مستمر .فقال تعالى:{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم110} .
البنيان هو الذي بنوه والذي بعث من الكفر ، ومضارة أهل الإيمان ، وتفريق بينهم ، وإرصاد لمن حارب الله ورسوله ، هذا البنيان من ريبهم الذي كانوا يترددون فيه دائما ويتنقلون في أجوائه المختلفة بعث عليهم ريبهم في دينهم ، وزادهم البناء ببواعثه ريبا ، ولما هدمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأحقره وحقر مكانه ، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف والقمائم ، زادهم ذلك حقدا وحسدا ، وريبا ونفاقا ؛ لأن هذا النفاق يولد من الحسد والحقد ، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة ، ولذا قال تعالى:{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} لا تزول إلا أن تقطع قلوبهم ، أي لا يزول إلا إذا زالت قلوبهم ، وتقطعت أجزاء ، فما دامت قلوبهم المركسة في النفاق الغائر فيها ، والتي أربدت به ، ولازمتها ملازمة الحسك للصوف ، وهذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق في القلب ، وتزايده بتزايد المغريات له ، والأعمال المنافقة تقوي النفاق وتدعمه ، آنا بعد آن ، والريبة هو الريب في كل شيء يفكرون فيه ، وقد يقال:كيف توصف عقيدتهم وحالهم بالريب ، وهم يعتقدون الكفر ، ويظهرون غيره ، ونقول:إن المنافق لا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئا ، وهو غير مؤمن بالله والرسول ويظهر الإيمان بهما ، ولذا كان منافقا ، ولكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان بالله ورسوله ، ولذا هو في حال ريبة مستمرة تمكث في قلبه وتستقر به ، ولا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا .
وقرأ الحسن ( إلى )بدل( إلا ){[1280]} أي أن الريبة تستمر حتى يقبروا وتقطع قلوبهم ، وإن هذا البناء الذي بنوه كان يحرك ضغنهم طول حياة الرسول ، ومن بعده في عهد أبي بكر وعمر ، وكان الناس يتذكرونه ، فيصخون أسماعهم صخا شديدا بذكره ، جاء في الكشاف:روى أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار ، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع أن يأتيهم في مسجدهم فقال:لا ولا نعمة عين ؛ أليس إمام مسجد الضرار ، فقال( أي مجمع ):يا أمير المؤمنين لا تعجل علي ، والله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما اختمروا فيه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخالايقرأون من القرآن شيئا ، فعذره وصدقه وأمره بالصلاة .
لعن الله النفاق وأهله وأعمالهم ، ولقد كثر المنافقون في عصرنا حتى نالتنا لعنة الله بهم ، اللهم ارحمنا ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، إنك غفور رحيم .
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ والله عليم حكيم} ، أي يعلم كل شيء ما خفى وما ظهر ، ما أسرته القلوب ، وما جهرت به الألسنة ، وحكيم يضع الأمور في موضعها ، ويقدر فيكمل تقديره ، وقد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة ، وكونها جملة اسمية ، وبالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم والحكمة .
بعد أن بين أوصاف المنافقين ، وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين .