ثم بين- سبحانه- الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال- تعالى- لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
الريبة:اسم من الريب بمعنى الشك والقلق والحيرة، وتقطع- بفتح التاء- أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين، من التقطع بمعنى التمزق. وقرأ بعضهم. «تقطع» - بضم التاء- من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق.
والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال، والمستثنى منه محذوف، والتقدير:لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفوسهم في كل وقت وحال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى:أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق، ويجدون مصيرهم الأليم.
والسبب في أن هذا البناء كان مثار ريبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه، أنهم بنوه بنية سيئة، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى ... فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة، فهذه الخشية أورثتهم القلق والريبة، فلما أطلع الله- تعالى- نبيه على أغراضهم، وتم هدم مسجد الضرار، وانهار الجرف المتداعي المتساقط، استمر قلقهم وريبهم لأنهم لا يدرون بعد ذلك ماذا سيفعل المؤمنون بهم.
وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم، ويظهر خداعهم.
وقوله:وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم.
أى:والله- تعالى- عليم بكل شيء في هذا الكون، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا:حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفي صنعه بهم، وسيجازيهم يوم القيام بما يستحقونه من عقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- وجوب بناء المساجد على تقوى من الله ورضوان، لأنها إذا بنيت على هذا الأساس، كانت محل القبول والثواب من الله، أما إذا بنيت لأى مقصد يتنافى مع آداب الإسلام وأحكامه وتشريعاته، فإنها تكون بعيدة عن رضا الله- تعالى- وقبوله.
قال بعض العلماء، دلت الآيات على أن كل مسجد بنى على ما بنى عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حركة، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله- الخليفة العباسي- كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة .
وقال الزمخشري:قيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن عطاء:لما فتح الله. تعالى. الأمصار على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضار أحدهما صاحبه .
2- أن مسجد قباء هو المقصود بقوله- تعالى-:لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ... وذلك لأن سياق الآيات في الحديث عنه، وفي بيان أحقية الصلاة فيه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين.
ولا منافاة بين كون مسجد قباء هو المقصود هنا، وبين الأحاديث التي وردت في أن المسجد الذي أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان، هو المسجد النبوي، لأن كليهما قد أسس على ذلك.
قال الإمام ابن كثير:وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس، وعروة بن الزبير، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وقتادة.
وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح.
ولا منافاة بين الآية وبين هذا، أنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى» .
3- أن المحافظة على الطهارة من الصفات التي يحبها الله- تعالى- فقد قال- تعالى-:فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها:ما جاء عن ابن عباس أنه قال:لما نزلت هذه الآية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن مساعدة فقال له:«ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به» ؟.
فقال:يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه.
فقال صلى الله عليه وسلم:«هو هذا»
4- كذلك يؤخذ من الآيات الكريمة، استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحة، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات .
وبعد أن بين- سبحانه- أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك، أتبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفي بيان فضله فقال- تعالى-: