{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون111} .
القصص بالفتح:الإخبار عن الماضين ، والقصص بالكسر جمع قصة ، كقطع جمع قطعة ، وغير ذلك ، وقوله تعالى:{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} ، قصر بعض المفسرين القصص على قصة يوسف عليه السلام ، وبعضهم عممه على قصص الأنبياء جميعا ، وعلى ذلكيكون الضمير في قصصهم يعود إلى الأنبياء الذين ذكرت أخبارهم في القرآن الكريم كنوح وإدريس وإبراهيم وموسى وعيسى ، ولوط ، ويوسف ، ويعقوب ، وعلى الرأي الأول يكون الضمير يعود إلى يوسف وأبيه وإخوته .
وقد رجح الزمخشري الثاني يعود الضمير إلى الأنبياء ، وذلك لقراءة كسر القاف ، ، إذ إنها تكون قصصا ، وليست قصة واحدة ، وقصة يوسف واحدة ، وليست قصصا متعددة .
ومهما يكن فإن قصة يوسف واحدة ، اختص بها يوسف عليه السلام ، وهي أخبار متنوعة قطبها يوسف عليه السلام ، وفيها عبر مختلفة ، فيها بيان لحال النفوس ، وما يعروها من منازع ، وما تعترك به من أهواء ، وما في النفس من قوة إرادة وصبر للمهتدين ، ونزوع فاسد للضعفاء الذين يناسقون ، وما فيها ما يحمي البيوت من آفات ، وما يعروها من انحرافات ، وفيها بيان لتدبير الجماعة ، وتنظيم لاقتصادها ، وإحكام ، وإخلاص ، وعدل ، وبيان لما يجب من الادخار من سني الرخاء لسنى الشدة ، كما قال تعالى:{. . . .فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون47} .
وفي سورة يوسف صورة للحاكم العادل ، تراها في أوصاف يوسف عليه السلام .
وأولى هذه الصفات البارزة قوة الإرادة ، ومظهرها الصبر عندما تعتلج النفس بأسباب الشهوات .
وثانيها:الأناة ، وأن يضبط نفسه عند الغضب ، ولا ينساق وراءه ، فالحاكم الذي يسير وراء الغضب يشط ، ويظلم ، وقد رماه إخوته بالسرقة كاذبين عليه ، مغرضين عليه .
وثالثها:العناية بذوي الحاجات ، ولو كانوا مؤذين له ، أو سبق لهم منه الأذى كما عامل إخوته .
ورابعها:الثقة بالنفس ، وطلب الأمر إن كان يصلحه ، كما قال يوسف{ اجعلني على خزائن الأرض} فلم يفر من تحمل التبعة عن بينة وجدارة واستحقاق ، مع ذاكرة قوية مدركة ، يعلم ما مضى وما حضر .
وخامسها:الإخلاص لله تعالى ، وعبادته وحده ، فلا يشرك ، فتدين الحاكم يجعله خاضعا لله .
وسادسها:أن يكون رفيقا في معاملة الناس شفيقا بهم ، فهو كالوالي على اليتيم ، يعطيهم من رفقه ورفده ما يدنيهم إليه ، وهكذا كان يوسف حتى وهو في سجنه ، فقد كان يناديهم ، وهو في سجنه مع المسجونين بأنهم أحبابه وأصحابه ، وإن من الشفقة والرفق العفو عندما توجد أسباب يداوي به الحسد والعداوة ، فلا يجتث شيء الحسد والأحقاد كالعفو والمحبة وإدناء البعيد ، وتقريب العشير ، وكل ذلك كان في يوسف .
وسابعها:التأني للأمور ، وقد رأينا كيف أخذ الثقة في لين ، ومن غير إعنات من العزيز ظهر ذلك فيمن هو أعلى منصبا منه ، وظهر في صغائر الأمور ، كما رأيت في استبقائه أخاه من غير اقتتال ، بل بوضعه السقاية في رحل أخيه من غير اتهام لشخصه ، ثم أخذ الحكم من ألسنتهم ، ونفذه بقولهم .
ثم من بعد ذلك أخذ الأمور بالتأني ، حتى التقى بأبيه على مائدة الرحمة والمودة والإيثار ، وقد قتل الحقد بالعفو ، والغيرة بالمحبة ، والضلال بالهداية .
وفي السورة عبر كثيرة ، وقد ذكرنا بعضها منها في أول السورة في معاني قوله تعالى:{ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين7} .
وقلنا:إن قوله تعالى:{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} الضمير يعود إلى الأنبياء ، وخصصنا نحن قصة يوسف ببعض ما يلوح منها من عبر ، والعبرة والاعتبار الحال التي يعرف فيها ، ما يجب عمله في الحاضر بالأخذ مما كان في الماضي بأن يتفكر ويتدبر ما كان في الماضي من وقائع ، ويعلم أنه نور يضيء للحاضر ، فالإنسان ابن الإنسان يتشابه في آثامه ، ويتشابه في عواقبها ونهايتها ، فذكر هذه الآثام لجماعة أو قبيل ، وبيان العواقب بيان للعواقب في كل جيل لمن يقع فيها من أهل هذا الجيل الذي خلف الأول ، ولذا كان في قصص الرسل إنذار للمشركين وتسلية للنبي والمؤمنين بأن نصر الله آت ، وكل آت قريب مهما يتأخر الزمان .
ويقيد سبحانه وتعالى المعتبرين بأن يكونوا من ذوي الألباب أي العقول التي تذهب في إدراكها إلى لب الأمور وحقائقها ، ويتدبرون مباديها ، ونهاياتها .
ويبين الله سبحانه أنه لم يكن حديثا يفترى ويخترع كأساطير الأولين{ ما كان حديثا مفترى} كما قال الأفاكون أنها{. . . .أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا5}( الفرقان ) والتنكير في –حديثا- لعموم النفي أي ما كان{ حديثا} أي حديث يفترى ويخترع اختراعا لمجرد التسلية وتزجيه الفراغ ، والتسلي المجرد ، بالأحاديث ، بل كان أخبارا جاءت بها الكتب السماوية من قبل ، ولذا قال تعالى:{ ولكن تصديق الذي بين يديه} أي أنه كلام فيه تصديق لما بين يديه من الكتب السماوية التي نزلت من قبله كالتوراة الصادقة ، وقوله:{ تصديق الذي بين يديه} فيه إثبات صدقه فيما أخبر ، وصدقها فيما أخبرت به ؛ لأن الصدر فيها واحد ، ويعبر بكلمة{ بين يديه} في القرآن بما سبقه ، وكأنه بعلمه حاضر بين يديه .
لقد ذكرها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال إنها من القرآن ، وهي موافقة للصادق من الكتب عند اليهود والنصارى ومبينة للزائف منها ، وكان ذلك على لسان رجل لا يقرأ ولا يكتب ، وفي قوم أميين ليس عندهم علم ولا معاهد للعلم ، وما كان كثير النجعة والارتحال ، بل لم يعرف له إلا رحلتان إلى الشام ، إحداهما في الثانية عشر ، والثانية في الخامسة والعشرين من عمره .
والضمير المستتر في قوله تعالى:{ ما كان حديثا مفترى} عائد إلى القصص ، وهو مصدق لما جاء في الكتب السابقة ، ودليل على صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيه هداية ورحمة لقوم من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم فالقصص فيه هداية لأن فيه دعوة النبيين وعاقبة المكذبين ، وفيه رحمة لتجنيب المؤمنين عاقبة الكفر .
ويصح أن يكون الضمير عائد إلى القرآن الكريم المشتمل على القصص فهو في ذاته هدى ، لأنه من عند الله ، وهو رحمة ، لأن الهداية رحمة ، وخص ذلك بالذين يؤمنون ويذعنون للحق إذا جاءهم ،{ ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}أما من لا يذعنون ولا يؤمنون فهم قوم بور .