{ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين110} .
هنا كلام مقدر بما جاء بعد ،و{ حتى} غايته ، والمعنى أن الرسل جاءوا ودعوا وكذبوا وحوربوا ، وقل المؤمنون بجوار الكافرين وكانوا يسخرون من الذين آمنوا{ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا} .
استيئس الرسل اعتراهم اليأس الشديد ، واستولى على نفوسهم كأنهم طلبوه وما طلبوه ، وصارت حالهم يأسا ، وصور صورة من يأسهم ،فقال ،{ وظنوا أنهم قد كذبوا} جال في روعهم أنهم كذبوا ، ولم يعد مجال للإيمان أو النصر ، وهنا قراءتان في{ كذبوا} القراءة الأولى بالتخفيف والبناء للمجهول ، وهي قراءة الأكثرين ، والثانية بتشديد( الذال ) للناء المجهول أيضا ، وهي قراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، وطائفة من القراء بعدها{[1346]} .
والمعنى على قراءة التخفيف كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني علموا أنهم تلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب ، أي ظنوا أن الذين تلقوا عنهم أخبار الإنذار يظنون الكذب فيهم ، وإليك نص عبارة الراغب رضي الله عنه:قوله تعالى:{ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} أي علموا أنهم تلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب ، فكذبوا نحو فسقوا ، وزنوا- إذا نسبوا إلى شيء من ذلك ، والمعنى على هذا ظنوا أنه وقع في نفوس من يخاطبون كذب ما أنذروا .
أي أنه قد طال الأمد الذي أجلوه ، حتى توهم الرسل أن الذين يخاطبونهم من المشركين قد وقع في نفوسهم كذب الرسل ، واتخذوا من المطاولة في الزمن ، أنهم كاذبون في إنذارهم ، واتخذوا من طول الزمن دليلا على كذبهم .
وعلى قراءة التشديد يكون المعنى أن الرسل قد استيئسوا حتى ظنوا أي علموا أنهم كذبوا فيئسوا من إيمان غير من آمنوا ، كما قال الله تعالى:{. . .لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . . . .36} ( هود ) .
والظن هنا بمعنى العلم ، أو بمعنى ما يعرض للبشر عند اليأس من خواطر تجعلهم يظنون في أمر المبعوث إليهم ، ولننقل لك كلام الزمخشري في هذا ، فهو يدل على نفاذ بصيرة في معاني العبارتين ومراميها من غير تهجم ، ولا تقحم على المعاني قال:{ وظنوا أنهم قد كذبوا} أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم عنهم بأنهم ينصرون ، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله ، قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط ، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، وظنوا حين ضعفوا أو غلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر . وقال:كانوا بشرا ، وتلا قوله تعالى:{. . . .وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله . . . .214} ( البقرة ) ، فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشر ، وأما الظن وهو ترجيح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وإنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبح ، وقيل:وظن المرسل إليهم بأنهم كذبوا من جهة الرسل ، أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم .
وإنه بعد هذا التحليل نقول:إن أم المؤمنين عائشة ردت قول ابن عباس رضي الله عنهما وقالت:إن الرسل لا يظنون بالله خلف الوعد .
وخلاصة القول أن نقول:إن معنى وظنوا أنهم كذبوا ، على التخفيف والبناء للمجهول أن يظنوا أنه ألقي في نفوس المرسلين إليهم أنهم كذبوا في إيقاع العذاب بهم ، وإن ذلك النطق نوع من هواجس الفكر البشري ، وهي تتلاقى مع قوله تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب214}( البقرة ) .
وقوله تعالى:{ جاءهم نصرنا} ، أي بغتة من حيث لا يحتسبون ،{ فنجي من نشاء} ، وهم الذين استقاموا على الطريقة واتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ،{ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} الذين اجتمعوا على الإجرام واتفقوا عليه ، حتى كانوا قوما من شأنهم الإجرام واجتمعوا عليه .
خاتمة
قال تعالى:في ختام هذه السورة التي بلغت أقصى غاية القصص بلاغة وبيانا ، وعلما نفسيا وخلقيا ، وبيانا للإرادة القوية ، وكيف تصبر في مواطن الهجوم عليها بالأهواء الجامحة ،والشهوات المنحرفة ، والوفاء ، والمحبة ، والرفق في المعاملة ، وعلاج الأمور بالحكمة ، والتدبير ، ولطف المواتاة للخير .
قال تعالى في ختام هذه السورة: