{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون109} .
هذه الآية بعد قوله تعالى:{ قل هذه سبيلي} تدل على أن التوحيد ، وتنزيه الله تعالى رسالة النبيين أجمعين ، فهي تدل على ذلك ، وتدل ثانيا ، على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل ، بل سبقه بهذه الدعوة أنبياء سابقون . وتدل ثالثا على أن رسالة الله إلى خلقه تكون برجال يدعون بها ، لا بملائكة ، وذلك رد على قولهم:{. . . .ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . . .7} ( الفرقان ) وعلى طلبهم أن ينزل عليهم ملك يخاطب برسالة الله ، وقد قال تعالى في رد عليهم{ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون9}( الأنعام ) .
وقال تعالى:{ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . . . .20}( الفرقان )وقال تعالى:{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين 8}( الأنبياء ) .
وهكذا كانت هذه الآيات الكريمات وغيرها تحمل الدلالات القاطعة التي ترد إنكارهم .
وقوله تعالى:{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} ليس من أرسلناهم من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أي أنهم ليسوا ملائكة ، ولكن اتصالهم بالله تعالى بطريق الوحي يوحي إليهم سبحانه وتعالى بأوامره ونواهيه ، وبعبادته وحده لا شريك له ، وقوله تعالى:{ من أهل القرى}أي أن هؤلاء الرسل من أهل القرى ، والقرى هي المدن العظيمة ، وفي هذا بيان أمرين أحدهما:أن الرسول يكون من أهل المدن العظيمة ، وثانيهما أنه يكون من قومه ، عرفوه من أوسطهم ، وأكثرهم أمانة وصدقا ، كما قال تعالى في شأن النبي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم 128}( التوبة ) .
وكان رسل الله من أهل المدن يبعثون فيها ، ليكون الرسول على علم بأحوال الناس ، وليكون معروفا بينهم مشهورا غير مغمور ، يكون ذا مكانة من غير غطرسة فيهم ، قبل النبوة ، فتكون شهادة له بالصدق بعدها .
وقد بين الله تعالى هذه الحقيقة ، وهي أن الرسل من الناس ، وليسوا ملائكة ، وأنها معروفة بالعيان لمن سار في الأرض ، وتعرف ديار الذين كفروا بالرسل ، فقال تعالى:{ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} هذا النص السامي فيه برهان أن الرسل كانوا رجالا ، وفيه إنذار لمشركي العرب بالمآل الذي يئولون إليه إذا استمروا على غيهم ، وإنه إنذار يحمل في نفسه دليله ، وبرهانه من الآثار والرسوم للذين هلكوا بسبب إنكارهم وكفرهم ، وانتحالهم التعلات للعناد والإنكار .
وقوله تعالى:{ أفلم يسيروا} ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وهي مؤخرة عن تقديم للاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة في البيان ، والاستفهام للنفي ، ونفي النفي إثبات ، والمعنى لم تسيروا ، وفيه تحريض على السير في الأرض ليروا عاقبة الذين من قبلهم ، وأنكروا ولجوا في الإنكار ، وعاندوا مثلهم ، فليعرفوا حالهم مما آل إليه أمر من سبقوهم .
مآلهم بعد ذلك في الآخرة أشد وأنكى وأدوم ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك ببيان عاقبة الذين من قبلهم ، فقال تعالت كلماته:{ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا} أي أنه سيصيبكم ما أصاب الذين من قبلكم ، والذين اتقوا ينجون من العذاب الساحق الذي ينزل بالكافرين ، وليست النجاة وحدها جزاءهم فذلك جزاء سلبي ، والجزاء الإيجابي في الآخرة ، ولذا قال مؤكدا{ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا} ، أي اتقوا غضب الله ، واتقوا الشرك ، واتقوا العذاب ، وغلبت عليهم في ذات أنفسهم التقوى والإيمان والإذعان للحق .
ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التفكير ، واستعمالهم عقولهم ، فقال:{ أفلا تعقلون} ( الفاء ) كما ذكرنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما قبلها من أحوال الأمم ، وما يكون يوم القيامة للأبرار يدعوهم إلى التعقل والتفكير ، والهمزة للاستفهام الإنكاري الباعث على العقل والفكر ، فإنه إنكار للدعوة إلى إعمال العقل ، وتدبير مآلهم ، والله بكل شيء عليم .
وقد بين سبحانه وتعالى سنته في أعمال الرسول ، ومآل الأمر حال يأسهم ، فقال تعالت حكته .